مقدمة: نهاية حقبة الدولار الذهبية؟
لم يكن صعود الدولار إلى قمة النظام المالي العالمي وليد الصدفة، بل هو نتيجة تخطيط استراتيجي أمريكي بدأ بعد الحرب العالمية الثانية. اتفاقية "بريتون وودز" عام 1944، والتي ربطت عملات العالم بالدولار المدعوم بالذهب، رسخت مكانة الدولار كعملة احتياط عالمية. ومع انهيار نظام بريتون وودز في السبعينيات، لم تتراجع هيمنة الدولار، بل تعززت باتفاق "البترودولار" الذي جعل تسعير النفط العالمي يتم بالدولار.
ولكن، بعد عقود من الهيمنة، بدأت علامات التآكل تظهر على عرش الدولار. فما هي الأسباب الكامنة وراء هذا التراجع؟ وما هي التحديات التي تواجه العملة الأمريكية في عام 2025؟
الركائز المتزعزعة: لماذا يفقد الدولار بريقه؟
لفهم مستقبل الدولار، يجب تفكيك البنية التي قامت عليها القوة الاقتصادية الأمريكية، واستعراض الركائز التي بدأت بالتراجع، مدعومة بأرقام ومؤشرات تكشف بوضوح: أين يقف الدولار اليوم؟ وإلى أين يتجه؟
1. الاقتصاد المترنح: تراجع النمو والاعتماد على الاستهلاك
الاقتصاد الأمريكي، الذي يبلغ حجمه 29.2 تريليون دولار، اعتمد لعقود على انفتاح تجاري واسع، وشبكة علاقات اقتصادية مع أكثر من 200 دولة، وطلب داخلي ضخم. لكن هذا النموذج بدأ يتعرض للاهتزاز من الداخل.
- تباطؤ النمو: بعد تحقيق نمو بنسبة 2.5% في عام 2024، سجل الاقتصاد الأمريكي انكماشا بنسبة -0.3% في الربع الأول من 2025. ويتوقع الاحتياطي الفدرالي نموا سنويا لا يتجاوز 1.4%.
- الاعتماد على الاستهلاك: يمثل الاستهلاك الشخصي حوالي 68% من الناتج المحلي الإجمالي، مما يجعله عرضة للصدمات الاقتصادية وارتفاع معدلات التضخم.
- التأثير السلبي للسياسات الحمائية: السياسات الحمائية تُضعف التجارة وتضرب النمو وتسرّع تآكل الثقة بالدولار.
2. تآكل الثقة في المؤسسات: استقطاب سياسي وتشكيك في النظام
تعتبر الثقة بالمؤسسات الديمقراطية واستقلالية النظام المالي واحترام القانون من الركائز الأساسية لقوة الاقتصاد الأمريكي. ولكن مع تصاعد الاستقطاب الداخلي وتنامي نفوذ التيار الشعبوي، بدأت هذه الثقة تتآكل.
- التشكيك في المؤسسات: بدأت الإدارة في التشكيك العلني بمؤسسات الدولة، وهاجمت المحاكم ووسائل الإعلام، وقلصت عدد الموظفين في الوكالات الفدرالية الحيوية.
- التدخل في السياسة النقدية: الضغط على مجلس الاحتياطي الفدرالي لتخفيض أسعار الفائدة يتجاوز مبدأ الاستقلالية النقدية الذي لطالما شكّل ركيزة للثقة بالدولار.
- تصاعد الانقسام المجتمعي: تصاعد الخطاب المعادي للمهاجرين واتساع هوة الانقسام المجتمعي يزيد حالة عدم اليقين داخل السوق.
3. أزمة الديون المتفاقمة: دين عام قياسي وعجز متزايد
تواجه الولايات المتحدة أزمة دين متفاقمة، حيث تجاوز الدين العام حاجز 37 تريليون دولار، وبلغ عجز الموازنة 1.4 تريليون دولار خلال الأشهر الثمانية الأولى من السنة المالية.
- ارتفاع تكلفة خدمة الدين: تنفق الدولة ما يقارب 25% من إيراداتها على سداد فوائد الدين، والتي تجاوزت 1.2 تريليون دولار سنويا.
- تأثير التخفيضات الضريبية: مشروع "الخفض الضريبي الكبير" يُتوقع أن يضيف 2.8 تريليون دولار إلى العجز بين عامي 2025 و2034.
- تخفيض التصنيف الائتماني: خفضت وكالات التصنيف الائتماني التصنيف السيادي للولايات المتحدة، مشيرة إلى العجز المزمن وغياب خطة واضحة لضبط الإنفاق.
4. تراجع النفوذ الجيوسياسي: سياسات متخبطة وفقدان الثقة
تعتبر مكانة الولايات المتحدة كقائد للنظام العالمي وشريك موثوق في التحالفات الدولية من الركائز الأساسية لقوة الدولار. لكن هذه المكانة بدأت تتآكل بسرعة بفعل سياسات أمريكية متخبطة تُضعف الثقة العالمية.
- الانسحاب من الاتفاقيات: بدلا من ترسيخ التحالفات، انسحبت واشنطن من اتفاقيات وتعاملت بمزاجية مع شركائها.
- تسييس المنظومة المالية: استخدام الأدوات المالية والتكنولوجية سلاحا لمعاقبة الدول غير المتماشية مع التوجهات الأمريكية دفع العديد من الدول إلى إعادة تقييم مدى أمان الاعتماد على الدولار.
- البحث عن بدائل: بدأت دول في تسوية معاملاتها التجارية بالعملات المحلية، وأطلقت مشاريع لأنظمة مدفوعات بديلة.
مؤشرات السوق: ماذا تقول الأرقام عن مستقبل الدولار؟
- تراجع حصة الدولار في الاحتياطيات العالمية: انخفضت حصة الدولار في الاحتياطيات العالمية من 71% في عام 1999 إلى أقل من 59% في عام 2025.
- ارتفاع أسعار الذهب: يعتبر الذهب ملاذا آمنا في أوقات الأزمات، وارتفاع أسعاره يشير إلى تزايد القلق بشأن مستقبل الدولار.
- تزايد الاهتمام بالعملات الرقمية: بدأت بعض الدول في استكشاف العملات الرقمية كبديل محتمل للدولار.
الخلاصة: الدولار في مهب الريح
لم يعد الدولار محصنا، بل يقف في قلب عاصفة: ديون متضخمة وحروب عسكرية وتراجع في احترام المواثيق وحرب مفتوحة على النظام الاقتصادي العالمي.
بعد أن كان الدولار ملاذا في الأزمات، بات اليوم عملة هشة داخل اقتصاد متقلب. ومع استمرار هذا المسار، تتسارع المراهنات على ضعفه. فالدولار مرآة لسياسات أمريكا، ومن يشتريه اليوم إنما يشتري تلك السياسات ويراهن عليها. أما من يتحسب للتغيير فيتحول تدريجيا نحو أصول أكثر رسوخا وأقل تقلبا تحسبا لتحولات قد تأتي أسرع مما يتوقعه الكثيرون.
اترك تعليقاً