مقدمة: أهمية التربية في بناء جيل واعٍ
لا شك أن الحديث عن التربية يكتسب أهميته من الدور المحوري الذي تلعبه في بناء شخصية الفرد المسلم المتزن والمستقيم. فالتربية هي المدخل الأمثل لتنشئة جيل واعٍ بدينه، متمسك بتعاليمه، عاملاً بها وداعياً إليها، ليسهم في تحقيق خيرية الأمة.
تعريف التربية: نظرة لغوية واصطلاحية
قبل الخوض في تفاصيل الموعظة، من الضروري أن نحدد مفهوم التربية من منظورين:
- في اللغة: يشير الراغب الأصفهاني إلى أن "الرب" في الأصل يعني "التربية"، وهي إنشاء الشيء حالاً فحالاً، وصولاً إلى حد الكمال.
- في الاصطلاح الشرعي: تُعرف التربية بأنها تنشئة الفرد وإعداده على نحو متكامل في جميع الجوانب: العقدية، والعبادية، والأخلاقية، والعقلية، والصحية، مع تنظيم سلوكه وعواطفه في إطار شامل يستند إلى شريعة الإسلام.
يتضح من هذا التعريف أن التربية الإسلامية تسعى إلى تصحيح التصورات، ثم تصحيح التعبدات، وأخيراً تصحيح السلوك الاجتماعي. وهذا ما نراه متجسداً في موعظة لقمان الحكيم، والتي سنستخلص منها الدعائم التربوية الأساسية.
موعظة لقمان: منهج تربوي متكامل
تحمل الآيات الكريمة التي تتضمن موعظة لقمان منهجاً تربوياً سامياً، يغني الآباء والمربين عن الكثير من النظريات التربوية المستوردة. فهذه الموعظة تقدم دعائم تربوية ذات أهمية بالغة، يستفيد منها المربي قبل المُربَّى، وتشمل جميع المناحي الدينية والدنيوية، الأخلاقية والأدبية، والمعاملاتية.
الآيات محل الدراسة:
{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 12 – 19].
بلاغة الموعظة اللقمانية: أسباب التأثير
تتميز هذه الموعظة بعدة أمور جعلتها بليغة ومثمرة:
- الحكمة: فهي صادرة من حكيم، يضع الأمور في نصابها الصحيح.
- أسلوب النداء: استخدام أسلوب النداء (يا بني) لجذب انتباه المخاطَب وحضوره الذهني.
- التصغير: استعمال التصغير لكلمة "الابن" (بني) للتعبير عن الشفقة والتحبب، ولحثه على امتثال الموعظة.
- التكرار: تكرار أسلوب النداء بين الوصايا لتجديد نشاط السامع ووعيه.
إن استقبال الخطاب وفهم مراميه يختلف من شخص لآخر وفقاً لاستعداداته وإمكاناته العقلية، لذا يجب على المربي (أباً كان أو مدرساً) مراعاة ذلك، ليكون لأقواله وتوجيهاته قبول حسن ينتفع به سامعه.
لقمان الحكيم: نبذة عن صاحب الموعظة
لفهم أبعاد الموعظة ونتائجها، من الضروري أن نتعرف على قائلها. لقمان هو لقمان بن عنقاء بن سدون، وكان أسود البشرة. اختلف العلماء في كونه نبياً أو حكيماً صالحاً فقط، لكن الراجح أنه كان حكيماً قذف الله في قلبه الحكمة فنطق بها.
تنسب إلى لقمان أقوال وحكم كثيرة، وقد عدّ الطاهر بن عاشور في تفسيره سبعين حكمة مأثورة غير ما ذكر في سورة لقمان، والتي جمعت أصول الشريعة: الاعتقادات، والأعمال، وأدب المعاملة، وأدب النفس.
دعائم التربية المستنبطة من الموعظة اللقمانية
تشتمل الموعظة اللقمانية على دعائم تربوية أساسية، يمكن تلخيصها فيما يلي:
1. التوحيد الخالص: أساس التربية الصحيحة
بدأ لقمان موعظته لابنه بالنهي عن الشرك بالله، لأنه أخطر الذنوب وأشدها عقوبة. فالنفس التي تسعى إلى التزكية والكمال يجب أن تتخلص أولاً من مبادئ الفساد والضلال. إصلاح الاعتقاد هو الأساس لإصلاح العمل.
الشرك جريمة شنعاء، فيه ظلم لحقوق الخالق، وظلم للنفس بإخضاعها لغير الله، وظلم لحقائق الأشياء بإفسادها. لذلك، يجب أن يكون منطلق العملية التربوية الناجحة هو تصحيح الاعتقاد وربط العباد بخالقهم في جميع أعمالهم.
2. بر الوالدين: مرتبة عظيمة بعد التوحيد
رفع الإسلام مقام الوالدين إلى مرتبة لم تعرفها الإنسانية في غير شريعة الرحمن. جعل الإحسان إليهما والبِر بهما في المرتبة الثانية بعد الإيمان بالله والعبودية له.
ورغم هذه المنزلة العالية، فإن أي تعارض بين مصالح الوالدين وعقيدة التوحيد يعني عدم الخضوع لهما ولا طاعتهما، بل برهما بدون المساس بجناب التوحيد.
3. مراقبة الله: علم شامل وقدرة محيطة
يؤكد لقمان على أهمية زرع الرقابة الإلهية في نفس الابن، وتعريفه بعلم الله الواسع المحيط بجميع الكائنات، وقدرته المحيطة بجميع الممكنات.
استخدم لقمان مثال حبة الخردل الصغيرة المختفية في أصلب مكان، ليؤكد أن علم الله وقدرته يحيطان بكل شيء، مهما دق أو خفي. هذه الطريقة في التعليم بالمثال هي الأنجع في تحصيل المنافع لدى المتعلم.
4. إقامة الصلاة: عمود الدين وصلة العبد بربه
ينتقل لقمان إلى الجانب العملي العبادي، فيأمر ابنه بإقامة الصلاة بحدودها وفروضها وأوقاتها، لتكون صلة بين العبد
اترك تعليقاً