سيمنز: عملاق التكنولوجيا وفضائح الرشاوى.. تاريخ مظلم من الفساد

سيمنز: عملاق التكنولوجيا وفضائح الرشاوى.. تاريخ مظلم من الفساد

سيمنز، الاسم اللامع في عالم التكنولوجيا الألمانية، يتردد صداه في أروقة الصناعة كرمز للابتكار والجودة. لكن، وراء هذا البريق، يكمن تاريخ مظلم من الفساد والرشاوى، لطخ سمعة الشركة العملاقة وأثار تساؤلات حول أخلاقيات العمل في عالم المال والأعمال.

سيمنز.. أكثر من مجرد شركة تكنولوجيا

عندما تذكر "سيمنز"، يتبادر إلى الذهن فورًا شركة التكنولوجيا الألمانية الرائدة. وهذا صحيح تمامًا، فالشركة معروفة بمنتجاتها وخدماتها الموثوقة في مجالات الاتصالات والطاقة والنقل والمعدات الطبية. لكن المحاكم، على مر السنين، استذكرت الشركة بسبب قضايا فساد عديدة، كان محورها الأساسي تقديم الرشاوى للفوز بالعقود.

يكفي أن تبدأ البحث عن "فضيحة سيمنز" على محرك البحث الشهير جوجل، لترى أن محرك البحث نفسه يبدو متشككًا: "أي فضيحة تقصد؟". هل هي فضيحة اليابان عام 1914؟ أم فضيحة اليونان عام 2004؟ أم تلك التي هزت الكويت؟ بل إن تقريرًا لصحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية حمل عنوانًا صادمًا: "في سيمنز.. الرشوة مجرد بند في الميزانية!". هنا يتضح أن الأمر يتجاوز مجرد فضيحة عابرة، بل هو منهجية ممنهجة.

جذور الفساد: اليابان 1914

البداية كانت في اليابان عام 1914، حيث كانت البحرية اليابانية بصدد تنفيذ مشروع توسعي ضخم يتطلب التعاقد مع شركات تكنولوجيا عالمية، أغلبها أوروبية. سرعان ما ظهرت "سيمنز" كالمحتكر الأوحد للعقود مع البحرية اليابانية. في ذلك الوقت، عُزِيَ الأمر إلى مكانة الشركة كعملاق تكنولوجي. لكن الحقيقة المرة كانت أن الشركة قدّمت رشى سخية، بلغت 15% من قيمة الصفقة، للمسؤولين عن شراء المعدات.

عندما قدمت شركة "فيكرز" البريطانية رشوة أكبر، وصلت إلى 25% من إجمالي الصفقة لأحد القادة البحريين اليابانيين، اكتشفت سيمنز أن هناك منافسًا يهدد هيمنتها. أرسلت الشركة إلى مكتبها في طوكيو تستفسر عن سبب تراجع حصتها في السوق بسبب الصفقة البريطانية. المفاجأة كانت في تسريب أحد الموظفين للبيانات السرية للصفقات ونسب الرشاوى إلى وكالة رويترز الإخبارية. سرعان ما التقطت الصحف اليابانية الخبر، قبل أن يهرب الموظف إلى ألمانيا.

بعد تحقيق مكثف من الشرطة والاستخبارات العسكرية، اعترف مكتب المشتريات في البحرية اليابانية بتلقي رشى من شركتي فيكرز وسيمنز. بينما تلقت فيكرز عقوبة مزدوجة من القضاء الياباني والبريطاني، فرض القضاء الياباني غرامة على سيمنز، ومنعها من عقد صفقات في المستقبل، وذلك لأن القانون الألماني في ذلك الوقت لم يكن يمنع الرشى صراحة.

الرشوة.. ميزة تنافسية وسياسة ممنهجة

لسوء الحظ، لم يكن هذا الحادث بمثابة جرس إنذار لسيمنز. بل تحولت الرشوة إلى "بند في الميزانية"، وميزة تنافسية لافتكاك الصفقات، وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من سلوك الشركة. والحقيقة أن سيمنز لم تكن الشركة الألمانية الوحيدة المتورطة في قضايا الرشى.

هناك سببان رئيسيان وراء هذا السلوك:

  • تداعيات الحرب العالمية الثانية: تعرضت مصانع الشركة للقصف ومصادرة براءات الاختراع خلال الحرب العالمية الثانية، مما دفعها إلى اللجوء إلى الرشى لإعادة تنشيط عملياتها في الدول ذات النشاط الصناعي المنخفض.
  • قانون الضرائب الألماني: حتى عام 1999، كان قانون الضرائب الألماني يصنف الرشوة بوصفها "نفقات تجارية" وليست جريمة جنائية.

انكشاف المستور: فضيحة عالمية

في عام 1999، انضمت ألمانيا إلى معاهدة حظر الرشى. وبعدها بعام واحد، اشتبهت السلطات السويسرية والنمساوية في تدفق ملايين الدولارات من مدفوعات شركة سيمنز إلى حسابات خارجية.

في عام 2002، اجتمع مسؤولون تنفيذيون في الشركة لإيجاد آلية أفضل لإخفاء مدفوعات الرشوة، وتوصلوا إلى تعيين مدير المحاسبات راينهارد سيكاتشيك لإدارة "الجانب التجاري للرشوة".

أشرف سيكاتشيك منذ عام 2002 على ميزانية سنوية للرشوة تراوحت بين 40 إلى 50 مليون دولار، وذلك حتى استقالته عام 2006، عندما بدأت الشكوك تدور في نيويورك حول سلوك الشركة المشبوه، باعتبار أن أسهمها تتداول في بورصة "وول ستريت".

في نوفمبر/تشرين الثاني 2006، اعتقل سيكاتشيك ونفذت الشرطة الألمانية نحو 200 حملة دهم في أنحاء البلاد، استهدفت منازل مسؤولين ومقرات للشركة. بالتزامن مع ذلك، بدأ مسؤولون أميركيون التحقيق في القضية، ليستقيل المدير التنفيذي لشركة سيمنز كلاوس كلاينفيلد بعد أقل من عام، في أبريل/نيسان 2007.

انتهت القضية بالحكم على سيكاتشيك بالسجن عامين مع وقف التنفيذ وغرامة قدرها 150 ألف دولار، والحكم على الشركة بدفع أكبر غرامة في قضية رشوة، تقدر بـ1.6 مليار دولار، إضافة إلى مليار إضافي مقابل الغرامات الثانوية والرسوم في كل من ألمانيا والولايات المتحدة، وتكاليف التحقيقات الداخلية والإصلاحات.

فضائح أخرى تلطخ السمعة: اليونان والكويت

لم تتوقف فضائح سيمنز عند هذا الحد. ففي أواخر التسعينيات، وبينما كانت الحكومة اليونانية تستعد لتنظيم الألعاب الأولمبية في عام 2004، أعلنت شركة الاتصالات الحكومية في اليونان "OTE" عن عروض لتطوير شبكتها بالبلاد.

ولأن موسم الألعاب يدرّ أموالًا طائلة، فإن الحصول على عقد ضخم مع شركة الاتصالات كان بمثابة "غاية تبرر أي وسيلة".

حوّلت سيمنز مبلغ 100 مليون يورو إلى شركة في دبي، ثم إلى شركة وهمية في الكاريبي، وبعدها إلى حسابات سرية في سويسرا ليحصل عليها مسؤول تنفيذي رفيع في فرع سيمنز باليونان، ويقدمها في شكل رشاوى لضمان حصول سيمنز على عقود تطوير شبكة الاتصالات في البلاد استعدادًا للألعاب الأولمبية عام 2004.

ووزعت الأموال على شخصيات في المعارضة والحكومة، ولم تكشف القضية إلا في عام 2008 بعد عامين من التحقيقات السرية، ليواجه مسؤولون في سيمنز اليونان، على رأسهم مديرها السابق ميكاليس كريستوفوراكوس، تهما بالرشوة وغسيل الأموال.

في عام 2015، حكم على المدانين في القضية بالسجن 15 عامًا، ليطلق سراحهم بعد عامين، استنادًا إلى مبدأ سقوط القضايا بالتقادم، وكان عمر القضية بالفعل قد تجاوز 15 عامًا.

وفي الفترة ما بين 2009 و2010، كانت وزارة الماء والكهرباء الكويتية قد شكلت ما يسمى "لجنة محايدة" لدراسة عقود محطة كهرباء، وقررت سحب الامتيازات التي قدمتها إلى "توشيبا" اليابانية وإعطائها إلى سيمنز، مما أثار الشكوك حول العملية.

في عام 2011، فتح الادعاء الكويتي تحقيقًا في القضية، إثر تقديم "لجنة الالتزام" في سيمنز معلومات عن أن الشركة حصلت على العقد بعد دفع رشاوى بقيمة نحو مليوني دولار لمسؤولين في الوزارة.

اللافت في قضية الكويت أن سيمنز هي من اكتشفت القضية وأبلغت السلطات، وذلك عبر لجنة أنشئت خصيصًا لمراقبة حملات الحصول على العقود، بعد دفع الشركة غرامة مالية مرتفعة عام 2008، وهو ما يظهر أثر القانون والعقوبات في الحد من الفساد.

دروس مستفادة

قصة سيمنز هي تذكير صارخ بأن النجاح التجاري لا ين

المصدر: موقع الجزيرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *