فَضْلُ الحجِ عظيمٌ، ومكانتهُ رفيعةٌ في دينِ الإسلامِ، فهو ركنٌ من أركانِهِ، وفريضةٌ على كلِّ مُستطيعٍ. فما هو سرُّ هذه الفريضةِ؟ وما هي معاني التلبيةِ التي يصدحُ بها الحجاجُ؟ هذا ما سنتناوله في هذا المقال.
الحج: فريضة العمر ومغفرة الذنوب
إنَّ فريضةَ الحجِّ من أجلِّ الفرائضِ التي فرضها اللهُ على عبادِهِ، وقد حذَّرَ اللهُ من التكاسلِ عن أدائِها، وجعلَ لها أجرًا عظيمًا ومنزلةً رفيعةً. قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97].
وقد بشَّرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الحاجَّ الذي يحجُّ حجًّا كاملًا غيرَ منقوصٍ بالأجرِ العظيمِ والمغفرةِ التامةِ، فقال: «من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» (أخرجه البخاري). بل إنَّ الحجَّ يكفِّرُ الذنوبَ والآثامَ التي اقترفها المسلمُ في سنيهِ السابقةِ، كما قال صلى الله عليه وسلم: «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله» (مسلم).
التلبية: شعار الحج وجوهر الاستجابة
إنَّ شعارَ الحجِّ الذي يلخّصُ كلَّ أركانِهِ وواجباتِهِ ومستحباتِهِ هو التلبيةُ: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك". هذه الكلماتُ تحملُ في طياتِها معاني عظيمةً، فهي تعني الاستجابةَ الدائمةَ لأمرِ اللهِ تعالى في كلِّ شأنٍ من شؤونِ المسلمِ الدينيةِ والدنيويةِ، وإفرادَ اللهِ تعالى بهذه الاستجابةِ.
معاني كلمة "لبيك"
- الإجابة بعد الإجابة: هي إجابةٌ متكررةٌ لدعوةِ اللهِ تعالى.
- الإقامة على الطاعة: هي ملازمةُ طاعةِ اللهِ تعالى وعدمُ مفارقتِها.
- التوحيد الخالص: هي إفرادُ اللهِ تعالى بالعبادةِ والطاعةِ.
- الإسراع إلى الطاعة: هي المسارعةُ إلى امتثالِ أوامرِ اللهِ تعالى واجتنابِ نواهيهِ.
رحلة التجرّد والتوحيد
تبدأُ هذه الطاعةُ والعكوفُ عليها من أولِ دخولِ المسلمِ في النسكِ، فيخلي نفسَهُ من كلِّ ما يشدهُ إلى الدارِ الفانيةِ، ويتجردُ من المخيطِ من الثيابِ، ويكتفي بإزارٍ ورداءٍ يسترُ عورتَهُ ويكشفُ ذلَّهُ وافتقارَهُ لربهِ، مهلًا بالتلبيةِ مقبلًا على ربهِ.
ما أجملَ شعورَ المسلمِ عندما يلبسُ ثيابَ الإحرامِ! إنها من أسعدِ اللحظاتِ التي تمرُّ بالمسلمِ، لأنه يشعرُ أنَّ اللهَ تعالى قد استدعاهُ لذلك، ما يعني إكرامَ اللهِ له بدعوتِهِ واختصاصِهِ بذلك الفضلِ العظيمِ.
استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام
إنَّ إجابةَ المسلمِ لداعي الحجِّ تعني عندَهُ أنه ممن استجابَ لدعوةِ إبراهيمَ عليه السلام عندما أمره ربه وأذن في الناس بالحج.
التلبية: من الميقات إلى الكعبة
يظلُّ المسلمُ يرددُ التلبيةَ ويرفعُ بها صوتَهُ من حينِ مرورِهِ بالميقاتِ ولا يقطعُ التلبيةَ حتى يصلَ إلى المسجدِ الحرامِ وتكتحلَ عيناهُ برؤيةِ الكعبةِ البيتِ الحرامِ.
صيغ التلبية
ما تقدم من صيغة التلبية هي الصيغة التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان هذا لا ينفي الزيادة عليها من جنسها كما كان عبد الله بن عمر يزيد في تلبيته ويقول: لبيك لبيك لبيك وسعديك، والخير في يديك لبيك، والرغباء إليك والعمل. وكان الناس يقولون لبيك ذا المعارج.. ونحوه من الكلام. والنبي عليه السلام يسمع فلا يقول لهم شيئًا، وإن عمر كان يقول بعد التلبية: لبيك ذا النعماء والفضل والثناء الحسن، لبيك مرهوبًا منك ومرغوبًا إليك. وكان أنس يقول في تلبيته: لبيك حجًا حقًا تعبّدًا ورقًا.
خاتمة
فالعبدُ يقبلُ على ربهِ معلنًا فقرَهُ وذلَّهُ له، طالبًا رحمتَهُ ورضاهُ، مظهرًا توحيدَهُ، مكثرًا ذكرَهُ في تلك الفريضةِ التي هي فريضةُ العمرِ التي قد لا يتاحُ لأكثرِ الناسِ تكرارُها، فليحرصِ المسلمُ على تكميلِ حجِهِ والقيامِ بأركانِهِ وواجباتِهِ ومستحباتِهِ؛ لعلَّ اللهَ أن يوفقَهُ للحجِّ الكاملِ فيكونَ ممن رجعَ من حجِهِ بعدَ انتهائهِ من ذنوبِهِ كمن ولدَ الساعةَ بغيرِ ذنبٍ ولا معصيةٍ.
نسألُ اللهَ من فضلِهِ أن يوفقَ الحجاجَ إلى الحجِّ المبرورِ، وأن يتقبلَهُ منهم برحمتِهِ وفضلِهِ.
اترك تعليقاً