الحج ليس مجرد رحلة مكانية، بل هو رحلة روحية عميقة نحو جوهر العبودية لله عز وجل. إنه فرصة لتجديد الإيمان، وتطهير القلب، والارتقاء بالنفس إلى مدارج الكمال الروحي. فما هي المقاصد الحقيقية لهذه العبادة العظيمة؟ وكيف يمكن للحاج أن يحققها على الوجه الأمثل؟
الحج: عبادة تغرس التربية وتحمي من الزلل
الله تعالى يريدك له وحده، ويرفض أن تتوزعك الأهواء والمحبوبات الدنيوية. لذا، فإن كل عبادة من العبادات الإسلامية تحمل في طياتها دروسًا تربوية قيمة، وتحمي المؤمن من الوقوع في الزلل. والحج ليس استثناءً، بل هو عبادة متكاملة تغرس في قلب الحاج التسليم المطلق لله، وتعمق فيه معاني العبودية الحقة.
- التسليم أساس العبادة: مدار العبادة على التسليم لقضاء الله وقدره، وحكمه وحكمته، وشرعه.
- العلم نور على نور: التسليم يزداد نورًا وبهاءً إذا اقترن بالعلم والمعرفة بمقاصد الشريعة.
تساؤلات حول حكمة التشريع في الحج
قد يتبادر إلى الذهن بعض التساؤلات حول بعض جوانب التشريع في الحج، مثل:
- لماذا مكة وادٍ غير ذي زرع؟ أليس الأجدر أن تكون واديًا ذا زرع وغابات وأنهار، ليتمتع الحجاج في أحب البقاع إلى الله؟
- لماذا لم تلامس قدما النبي صلى الله عليه وسلم أرض عرفة في حجة الوداع؟
- لماذا يختلط الرجال بالنساء في المطاف والجمرات؟ أليس هذا مخالفًا للفصل بين الجنسين في سائر العبادات؟
- لماذا نبيت في مزدلفة بعد عرفة مع أن منى قريبة؟
إن هذه التساؤلات وغيرها تدعونا إلى التفكر والتدبر في حكمة الله البالغة، والبحث عن المقاصد العميقة التي تكمن وراء هذه التشريعات.
إتمام الحج: زمانًا ومكانًا وصفة
لقد أمرنا الله تعالى بإتمام الحج والعمرة له سبحانه زمانًا ومكانًا وصفة. وكلما انتقص الحاج من حجه، فاته من حكمه ومقاصده. فمن ترك المبيت في مزدلفة، أو لم يستكمل القدر المشروع منه، أو لم يبت بمنى لياليها، أو لم يرم الجمرات، فقد فوَّت على نفسه الكثير من الخير، حتى وإن جبر نقصه هذا بفدية وصحح حجه فقهيًا.
- التفريط في الواجبات: قد يصح حج من مرَّ بعرفات سريعًا ثم طاف وسعى ورحل، تاركًا خلفه ركامًا من الواجبات جابرًا إياها بالفدية، ولكنه لم يعلق بنفسه ولا بقلبه شيء من مقاصد الحج المعتبرة.
حكمة التضييق في الزمان والمكان
لقد ضُيِّقت بعض العبادات زمانًا ومكانًا مقارنة بأعداد الحجاج، مثل رمي الجمار والطواف. وهذا ليس عن عجز أو نقص، بل لحكم عظيمة أرادها الحكيم الخبير سبحانه وتعالى. فالله عليم حكيم، ولا يخفى عليه ما سينتج عن هذه الأحكام من تزاحم واختلاط شديدين، وهذا كله لحكم عظيمة أرادها الحكيم الخبير سبحانه وتعالى.
مقاصد الحج: الفوائد والحكم الكبرى
مقاصد الحج هي الفوائد والحكم الكبرى التي شُرعت أعمال الحج من أجل تحقيقها وتحصيلها. وعلى قدر تحقيق الحاج لهذه المقاصد يكون أجره ومنزلته عند الله سبحانه وتعالى، ويكون استمتاعه بأعمال الحج وإقباله عليها بصدر منشرح.
المقصد الأكبر: تحقيق العبودية لله عز وجل
المقصد الأكبر من الحج هو تحقيق العبودية لله عز وجل. ومن هذا المقصد تتفرع بقية المقاصد، ومنها:
1. تحقيق محبة الله سبحانه وتعالى وتمحيضها له
الحج يتطلب التخلي عن المحبوبات الكبرى في الحياة، كالوطن والزوجة والذرية والبيت والوظيفة، ثم لا يدري الحاج هل يعود إلى هذه المتع أم لا. وهذا التخلي ليس إلى وادٍ ذي زروع وحدائق غنَّاء، بل إلى وادٍ غير ذي زرع، شديد الحر، كظيظ الزحام، ليكون الدافع إلى الخلوص أقرب.
- الحكمة من وادي غير ذي زرع: لو اجتمع لمكة المكرمة خاصية هوي الأفئدة إليها مع جمال طبيعتها، لربما تكدس الناس فيها وتكاثروا، ولم يجد غيرهم فرصة لأداء نسكه.
- ترك المحبوبات عند المواقيت: مطلوب من الحاج أن يترك محبوباته عند عتبات المواقيت، حتى تتمحض المحبة العظمى لله عز وجل وحده.
- ترك المسجد الحرام والكعبة المشرفة: سيترك الحاج المسجد الحرام والكعبة المشرفة إلى ما هو دونها في يوم عرفة، اختبارًا وامتحانًا من الله للعبد، هل يقدم محبوبات الله؟
2. تحقيق التعظيم لله عز وجل والضعف بين يديه
يتحقق هذا المقصد من خلال تذكر الله عند المشعر الحرام، فالمشعر: كلُّ ما أشعر بعظمة الله وغناه وذُلِّ المخلوق وفقره. ويتجلى هذا بوضوح في أرض مزدلفة، حيث يتساوى الحجاج في المنام والأكل والمرافق، فلا يبقى مظهر لأي عظمة وغنى إلا عظمة الله سبحانه وتعالى وغناه وحده.
- الفقر والغنى في منى وعرفة: في منى وعرفة يتضح تفاوت طبقات الحجاج في الغنى والفقر، مما قد يشغل القلوب بمظاهر غنى المخلوقين عن غنى الخالق.
- أحكام مزدلفة تزيل الفوارق: شُرعت أحكام مزدلفة بطريقة تحول بين الحجاج وبين مظاهر غناهم وتعاظمهم، ليتحقق التعظيم لله وحده.
3. تحقيق الرجاء لله عز وجل
تؤدي طريقة تشريع أعمال الحج إلى اختلاط أو تقارب في السكن بين أنواع من الراجين والمرجوين من الخلق، بطريقة يندر حصول مثلها في الحياة العامة. ولكن المتأمل لحال الحجاج يجد أن الجميع قد انشغلوا عن رجاء المخلوقين، واتجهوا كلُّهم إلى رجاء من لا تفنى خزائنه، وهذا من توحيد الرجاء.
4. تحقيق الخوف من الله سبحانه
هناك ارتباط وثيق بين شعيرة الحج ومقصد تحقيق الخوف من الله سبحانه، ويتضح هذا من خلال تأمُّل الكتاب والسنة والواقع. فالحج هو جهاد، والجهاد قرين المخاوف. ومنذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، لم ينفك الحج عن الخوف على مرِّ السنين والقرون.
- الخوف في الحج: الخوف من قُطَّاع الطرق، وحرائق الخيام، والمظاهرات، والتفجيرات، والسيول، والأمراض والأوبئة.
- الحكمة من الخوف: الارتقاء بعبادة الخوف من الله من الزعم باللسان إلى التحقيق بالجوارح والجنان.
5. تحقيق التوكل على الله عز وجل
الحج يقدم دليلاً واضحًا على أن الحاج متوكل على الله وحده. فمع وجود المخاطر المحتملة كالسيول والصواعق والأمراض، تتلاشى هذه المخاوف كلها في جنب صدق توكله على الله عز وجل وإيمانه بقضائه وقدره.
6. تحقيق الإنابة لله عز وجل
مع توفر صفة القوة المالية والجسدية لدى أغلب الحجاج، تجدهم في جميع مواطن الحج قد وقفوا وقوف الخائف الذليل المعترف بذنبه، المعلن لتقصيره، النادم على تفريطه، الراجي عفو ربه.
7. تحقيق الإخبات لله تعالى
الإخبات هو التواضع لله عز وجل، والتسليم المطلق له سبحانه وتعالى. وشعائر الحج هي أكثر العبادات التي يظهر فيها إخبات العبد لربه. فالحاج يجتهد في العمل لأن الله أمره فقط، دون النظر لأي شيء آخر.
الحج: رحلة نحو الكمال الروحي
الحج ليس مجرد أداء مناسك، بل هو رحلة متكاملة نحو الكمال الروحي. فمن خلال تحقيق مقاصد الحج العميقة، يستطيع الحاج أن يجدد إيمانه، ويطهر قلبه
اترك تعليقاً