مقدمة: بين الإرث الإمبراطوري والواقع الإقليمي المتأزم
في كتابه "الإستراتيجية العظمى لإيران: تاريخ سياسي"، يقدم الباحث فالي نصر رؤية تحليلية معمقة للمسار الذي انتهجته الجمهورية الإسلامية الإيرانية منذ عام 1979. يهدف نصر إلى فهم الكيفية التي بنت بها إيران مشروعها الجيوسياسي، مرتكزة على ما يسميه "الإستراتيجية الكبرى للممانعة"، وهي رؤية تهدف بشكل أساسي إلى مقاومة النفوذ الغربي، وخاصة النفوذ الأمريكي.
من ثورة إلى دولة: تطور الفكر الاستراتيجي الإيراني
يتجاوز الكتاب النظرة التقليدية التي تختزل إيران في خطاب ثورتها الإسلامية عام 1979، والذي يركز على الجوانب الأيديولوجية والدينية. يسعى نصر إلى قراءة التاريخ السياسي الإيراني من زاوية استراتيجية، تتبع تطور الثورة إلى رؤية دولة تتجاوز اللحظة الانفعالية الدينية الأولى، لتؤسس ما يشبه فلسفة استراتيجية متكاملة. هذه الفلسفة تمتد من "الدفاع المقدس" خلال حرب الثمانينيات، وصولاً إلى مفاهيم "الدفاع الأمامي" و"محور المقاومة"، والتي أصبحت أدوات طهران لإعادة تموضعها في النظامين الإقليمي والدولي.
عقيدة المقاومة: ركيزة الاستراتيجية الإيرانية الكبرى
تُعد حرب إيران مع العراق (1980-1988) نقطة تحول حاسمة في الفكر الاستراتيجي الإيراني. فقد أدرك النظام أن ضمانة أمن إيران تكمن في قدراتها الذاتية، وأن الغرب لا يمكن الوثوق به. من هنا نشأت "عقيدة المقاومة"، التي تحولت لاحقاً إلى الركيزة المركزية للاستراتيجية الكبرى للجمهورية الإسلامية. هذه العقيدة لا تقتصر على الردع أو الدفاع، بل تقوم على بناء منظومة نفوذ ممتدة عابرة للحدود، تحل محل التحالفات الكلاسيكية.
الدفاع الأمامي: إعادة هندسة الصراعات الإقليمية
يعتبر مفهوم "الدفاع الأمامي" تجسيداً عملياً لعقيدة المقاومة. لم تعد طهران تكتفي بردع الأعداء داخل حدودها، بل تسعى إلى نقل خطوط التماس بعيداً عن جغرافيتها، لتدور المعركة على أرض الخصم أو في محيطه القريب. لا تهدف هذه الاستراتيجية إلى التوسع الإمبراطوري، بل إلى بناء طوق ردعي مرن يجعل أي اعتداء على العمق الإيراني مكلفاً ومعقداً للغاية، وفق نموذج "الحرب البعيدة" الذي ينقل الاشتباك إلى هوامش النفوذ الأمريكي والإسرائيلي.
فيلق القدس: ذراع إيران الاستراتيجي في المنطقة
يلعب "فيلق القدس"، الذراع الخارجية للحرس الثوري، دوراً محورياً في تنفيذ هذه الاستراتيجية. لم يكن الفيلق مجرد أداة تدخل عسكري، بل جهازاً استراتيجياً لإدارة التحالفات العابرة للحدود، وقيادة محور واسع من الفاعلين المسلحين المحليين الذين يدينون بالولاء أو ينسقون بدرجات مختلفة مع طهران:
- حزب الله في لبنان
- الحشد الشعبي في العراق
- الحوثيون في اليمن
- حركتا حماس والجهاد الإسلامي في غزة
لا تسعى إيران إلى القضاء على إسرائيل أو طرد أمريكا عسكرياً من المنطقة، بل إلى إنهاك الخصوم بما يقلل من فرص شن أي أعمال عدائية مباشرة ضدها وجعلها مكلفة استراتيجياً للغاية.
هجوم 7 أكتوبر: اختبار للعقيدة والمناورة
يرى نصر في هجوم 7 أكتوبر 2023 لحظة مفصلية في تفعيل استراتيجية إيران الإقليمية. لم يكن الهجوم مجرد عملية عسكرية مفاجئة، بل اختباراً حقيقياً لقدرة طهران على الجمع بين العقيدة والمناورة. وقد أسقط الهجوم الهالة الردعية التي أحاطت بإسرائيل طويلاً، وأعاد القضية الفلسطينية إلى مركز الطاولة الإقليمية، وأربك اندفاعة التطبيع العربي مع تل أبيب.
التحديات الداخلية والخارجية: معادلة ملغومة
يربط نصر بين احتجاجات "مهسا أميني" وهجوم 7 أكتوبر، معتبراً أن النظام الإيراني لا يفصل بين الخارج والداخل، بل يراهما وجهين لصراع واحد. تماسك الداخل، في نظر طهران، هو نتيجة مباشرة لمراكمة أوراق القوة الإقليمية. ومع ذلك، يرى نصر أن الاستراتيجية الكبرى، التي نجحت في كسب أوراق خارجية، باتت تستنزف الرصيد الداخلي للنظام.
المشروع النووي: بين الردع والاستنزاف
يحلل نصر العلاقة المعقدة بين المشروع النووي الإيراني واستراتيجية الممانعة الكبرى. فالنووي ليس مشروعاً عقائدياً، بل رافعة استراتيجية دقيقة وضعتها طهران على طاولة الردع الشامل، بوصفها أداة تفاوض لا أداة حرب. لكن هذا السلاح غير المكتمل تحول أيضاً إلى ساحة استنزاف خطيرة: وسيلة لردع الخارج من جهة، وذريعة لحصار اقتصادي خانق من الداخل من جهة أخرى.
محور المقاومة: مشروع جيواستراتيجي صاعد
يتناول نصر ظاهرة "محور المقاومة" باعتباره مشروعاً جيواستراتيجياً صاعداً يطمح إلى إعادة تعريف القوة والنفوذ في الإقليم من خارج قوالب الدولة القُطرية. ورغم أن طهران لا تمارس سيطرة كاملة على قرارات حلفائها في "المحور"، فإنها تتحكم في الاتجاه العام من خلال بنية معقدة من التنسيق العقائدي، والدعم اللوجستي، والتمويل المستمر.
العقدة التاريخية: هاجس التدخلات الخارجية
يكشف نصر عن بنية ذهنية تشكلت عبر قرون من الجراح المفتوحة، حيث تصوغ إيران سياساتها من خلال سردية قومية مثقلة بتاريخ من التدخلات الخارجية والإهانات السيادية. لذلك، فإن السياسة الخارجية لا تُبنى في طهران باعتبارها استراتيجية مصالح فحسب، بل فعل مقاومة لعكس مسار الإهانة التاريخية.
خاتمة: إلى أين تمضي إيران؟
يختتم نصر كتابه بتحذير مزدوج النبرة: لقد بلغت الاستراتيجية الكبرى للجمهورية الإسلامية مداها الهيكلي، ورغم ما حققته طهران من مكاسب، فإن الكلفة صارت باهظة ومرهقة لنسيج الدولة ذاتها. ومع ذلك، لا يتوقع نصر أن تتراجع إيران عن هذا النهج، فالمقاومة بوصفها استراتيجية عظمى للدولة لم تعد مجرد خيار سياسي، بل باتت هوية مؤسِّسة للنظام.
سيناريو افتراضي: ضربة إسرائيلية ورد إيراني غير مسبوق
يتخيل نصر سيناريو افتراضياً لضربة إسرائيلية تستهدف قلب القيادة العسكرية الإيرانية، ورد إيراني سريع وصادم ومباشر. يختتم نصر بالقول إن هذا الواقع الجديد يضع صانع القرار الإيراني أمام خيارين: إما تطوير نوعي يعيد ضبط قواعد الاشتباك، وإما السير نحو جدار الإنهاك الداخلي والخارجي.
اترك تعليقاً