الأرزاق بيد الله وحده: نفحات إيمانية وأدبية في التوكل واليقين
الحمد لله رب العالمين، خالق الخلق ورازقهم، ومقدر الأقدار ومقسم الأرزاق، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، إمام المتوكلين وسيد الواثقين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
مقدمة في رحاب الرزق واليقين
إن قضية الرزق من أهم القضايا التي تشغل بال الإنسان، فمنذ أن يفتح عينيه على هذه الدنيا، يسعى جاهداً لتحصيل رزقه وتأمين مستقبله، وقد يظن البعض أن الرزق بيد البشر، وأن السعي والكدح هما وحدهما السبيل إلى الغنى والثراء، ولكن الحقيقة التي لا ريب فيها أن الأرزاق كلها بيد الله وحده، فهو الذي يرزق العباد من حيث لا يحتسبون، وهو الذي يقسم الأرزاق بين خلقه بالعدل والحكمة.
الأرزاق في القرآن الكريم والسنة النبوية
لقد أكدت آيات القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة على أن الرزق بيد الله وحده، وأن الإنسان مهما أوتي من قوة وذكاء وحيلة، فإنه لا يستطيع أن يزيد في رزقه أو ينقص منه شيئاً إلا بإذن الله تعالى.
- في القرآن الكريم: يقول الله تعالى: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾ [الذاريات: 22-23]. ويقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [الذاريات: 58]. ويقول تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [هود: 6].
- في السنة النبوية: روى الإمام الترمذي في سننه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لو أنكم توكلتم على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً”. وفي الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه: “إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد”.
الأسباب الظاهرة والأسباب الخفية للرزق
إن الله تعالى قد جعل للأرزاق أسباباً ظاهرة وأسباباً خفية، والأسباب الظاهرة هي السعي والعمل والكدح، والأسباب الخفية هي التقوى والتوكل والدعاء والاستغفار. فالإنسان مأمور بالسعي والعمل، ولكنه في الوقت نفسه مأمور بالتوكل على الله واليقين بأن الرزق بيده وحده.
- السعي والعمل: يقول الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [الملك: 15]. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: “ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده”.
- التقوى والتوكل: يقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ [الطلاق: 2-3].
- الدعاء والاستغفار: يقول الله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60]. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: “من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب”.
الثقة بالله واليقين بوعده
إن المؤمن الحق هو الذي يثق بالله تعالى ويوقن بوعده، ويعلم أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وأنه سبحانه قد تكفل بأرزاق العباد، وأنه أرحم بهم من أنفسهم. فإذا أيقن العبد بذلك، اطمأن قلبه وسكنت نفسه، ولم يجزع لقلة الرزق أو تأخره، بل صبر واحتسب، وعلم أن الله سيأتيه برزقه في الوقت المناسب وبالطريقة التي يراها سبحانه.
نماذج من المتوكلين على الله
لقد ضرب لنا سلفنا الصالح أروع الأمثلة في التوكل على الله واليقين بوعده، فهذا إبراهيم عليه السلام عندما أمره الله تعالى بترك زوجته هاجر وابنه إسماعيل في واد غير ذي زرع، قال: “اللهم إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم، ربنا ليقيموا الصلاة، فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون”. فاستجاب الله دعاءه ورزقهم من حيث لا يحتسبون.
وهذا موسى عليه السلام عندما خرج من مصر خائفاً يترقب، قال: ﴿عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ [القصص: 22]. فآواه الله وهداه ورزقه من فضله.
خاتمة في التوكل والرضا
وفي الختام، فإن قضية الرزق من أعظم القضايا التي يجب على المسلم أن يفهمها حق الفهم، وأن يعلم أن الأرزاق كلها بيد الله وحده، وأنه سبحانه قد تكفل بأرزاق العباد، وأنه أرحم بهم من أنفسهم. فعلى المسلم أن يسعى في طلب الرزق، ولكن عليه في الوقت نفسه أن يتوكل على الله ويثق به ويوقن بوعده، وأن يعلم أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وأنه سيرزقه من حيث لا يحتسب.
اللهم ارزقنا اليقين والتوكل عليك، والرضا بقضائك وقدرك، واجعلنا من المتوكلين عليك حق التوكل، ومن الراضين بقضائك وقدرك، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
اترك تعليقاً