التسليم والانقياد: سبيل السكينة والطمأنينة في الإسلام

التسليم والانقياد: سبيل السكينة والطمأنينة في الإسلام

التسليم والانقياد: سبيل السكينة والطمأنينة في الإسلام

تُعَدُّ العبودية لله سبحانه وتعالى جوهر الدين الإسلامي، ولا تتحقق إلا بالاستسلام والتسليم والانقياد المطلق لأوامره ونواهيه. فهذا هو حقيقة الإيمان الصادق، كما بيّنه ابن القيم رحمه الله بقوله: "إنّ مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم، وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرع". وفي هذا المقال، سنتناول مفهوم التسليم في الإسلام، وأهميته في تحقيق السكينة والطمأنينة، مع ذكر أمثلة من حياة الأنبياء والصحابة، بالإضافة إلى التنبيه على بعض المفاهيم الخاطئة التي قد تُشوّه هذا المفهوم العظيم.

التسليم في القرآن الكريم والسنة النبوية

يُؤكد القرآن الكريم مراراً وتكراراً على أهمية التسليم لله عز وجل. فمن آياته الدالة على ذلك قول الله تعالى في سورة البقرة (131): ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾. وهذه الآية الكريمة تُجسّد أسمى معاني التسليم من نبي الله إبراهيم عليه السلام. كما جاء في سورة البقرة (208): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾، وهو دعوة عامة للمسلمين للدخول في الإسلام كاملاً، دون نقص أو انتقاص. وفي سورة النساء (125): ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾، يُشير الله تعالى إلى أن أحسن دين هو دين من أسلم وجهه لله، وهو ما يُعبر عن التسليم الكامل. وقد فسّر ابن تيمية رحمه الله الاستسلام لله بأنه يتضمن الاستسلام لقضائه وأمره ونهيه، ويتناول فعل المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور.

أمثلة من حياة الأنبياء والصحابة

تتجلى معاني التسليم والانقياد في سيرة الأنبياء والصحابة الكرام. فمن أبرز الأمثلة:

  • إبراهيم عليه السلام: قصة إبراهيم عليه السلام مع هاجر وإسماعيل عليهما السلام في مكّة، حيث تركهما في وادٍ غير مأهول، مثالٌ حيٌّ على التسليم المطلق لقضاء الله وقدره، وذلك عندما قالت هاجر: "آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟" فقال: "نَعَمْ" قالت: "إِذًا لَا يُضَيِّعُنَا". وقد خلد الله ذكرى هذا التسليم العظيم في شعيرة السعي بين الصفا والمروة. كما تجلّى تسليمه في قصة ذبح إسماعيل، حيث أسلم هو وابنه لأمر الله، وخُلدت ذكرى هذا التسليم في شعيرة ذبح الأضاحي ورجم الجمرات في الحج.

  • النبي محمد صلى الله عليه وسلم: كانت حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم كلها تسليمًا ويقينًا وانقيادًا لله تعالى. يتجلى ذلك في تبليغه للدعوة، وصبره العظيم، ورضاه في كلّ الابتلاءات، كما في هجرته إلى المدينة، وحسن ظنه بالله، وطمأنينته في الغار: ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾. وكذلك في تضحياته في سبيل الله بنفسه وماله، وثباته ويقينه بنصر الله تعالى، وحتى في صلح الحديبية، حيث كان يقول لمن يعترض عليه: «إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللَّهُ أَبَدًا».

مجالات التسليم في الإسلام

يُمكن تقسيم مجالات التسليم في الإسلام إلى ثلاثة:

  1. التسليم للمغيّبات: وهو من أهمّ صفات المؤمن، كما في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾. يتضمّن هذا التسليم قبول الأخبار الواردة في الكتاب والسنة، سواء كانت قصصًا أو أخبارًا ماضية أو تنبؤات للمستقبل، دون التشكيك أو السؤال عن الكيفية أو الأسباب.

  2. التسليم للأحكام الشرعية: وتقبلها بالإذعان والقبول والعمل، سواء أدرك العبد حكمة التشريع فيها أم لم يُدرك، فإنّ الله تعالى لم يشرعها إلا لما فيه مصلحة الإنسان في دنياه وآخِرته. مثال على ذلك قول سهل بن حنيف رضي الله عنه: «اتَّهِمُوا الرَّأْيَ».

  3. التسليم للأحكام الكونية القدرية: واليقين بأنّ لله تعالى الحكمة البالغة، وأنّ كلّ ما يحدث من قدر خير للمؤمن.

التنبيه على بعض المفاهيم الخاطئة

من المهمّ التنبيه على أنّ التسليم لا يعني إلغاء العقل أو القبول بالخرافات. يجب على المسلم أن يعرف حدود التسليم وأحكامه، ولا يدخل فيه ما ليس منه، وذلك لئلا يُضعف أصل التسليم. فبعض الممارسات التي تُنسب خطأً إلى التسليم، كإلغاء العقل وتقديم الذوق والوجد على النصوص الشرعية، أو قبول الخرافات والخزعبلات، لا علاقة لها بالتسليم الحقيقي.

خاتمة

إنّ التسليم لله تعالى وأحكامه وأقداره أمرٌ فطريٌّ، يُسهم في تحقيق السكينة والطمأنينة في قلب المسلم. ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام. فمن سَلِمَ في دينه من سَلَّمَ لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. ولكن يجب الحذر من المفاهيم المغلوطة التي تُشوّه هذا المفهوم العظيم، والتمسك بالنصوص الشرعية الصحيحة والفهم الصحيح للدين.

المصدر: شبكة الألوكة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *