مقدمة: حتمية التنوع في المجتمعات الإنسانية
من المستحيل أن تجد مجتمعًا متطابقًا، نسخة طبق الأصل من بعضه البعض. الاعتقاد بأن المجتمع يجب أن يكون مثاليًا، خالٍ من الأخطاء والرغبات والنزعات الإنسانية، ما هو إلا وهم. هذه المثالية المفرطة لا وجود لها إلا في أذهان الحالمين الذين لم يفهموا قوانين الله في خلقه، ولم يتأملوا تاريخ البشرية، ولم يدركوا جوهر النفس الإنسانية.
التنوع: سُنّة الله في الخلق
منذ بداية الخليقة، انقسم المجتمع إلى قابيل وهابيل، اللذين خرجا من بيت النبوة ليشكلوا نموذجًا للتنوع والتدافع. لقد رسموا صورة لما ستكون عليه المجتمعات بطبيعتها، بعيدًا عن وهم التوحد في نموذج أحادي. يشير القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في قوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118].
الاختلاف والتنوع بين البشر ليسا استثناءً، بل هما جزء من سُنّة الله في الخلق. يقول تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22]. الاختلاف بين الناس أمر طبيعي، ولو كانوا على شاكلة واحدة لانتفت الحركة وانطفأت جذوة الحضارة.
التنوع في المجتمع النبوي
أسس النبي محمد صلى الله عليه وسلم مجتمعًا مسلمًا متنوعًا، حتى في ظل نزول القرآن. ضم هذا المجتمع شخصيات مثل أبو بكر وعمر وأبو ذر وعمار وغيرهم. ومع ذلك، كان هناك أفراد سرقوا، واستمروا في إدمان الخمر، وارتدوا عن الإسلام.
التدافع بين الخير والشر: أساس التوازن
يعكس هذا التنوع بين الخير والشر سُنّة التدافع التي أشار إليها القرآن بقوله: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: 251]. التدافع بين الصلاح والفساد يضمن بقاء التوازن في الأرض ويحول دون انتشار الفساد المطلق. بل إن الصراع بينهما يساهم في تشكيل حضارة قادرة على التجدد باستمرار وتصحيح أخطائها.
التنوع في الحضارة الإسلامية
مع اتساع رقعة الدولة الإسلامية واختلاطها بغيرها من الأمم، أصبح التنوع أكثر وضوحًا. في العصرين الأموي والعباسي، رأينا في أحياء المدن الإسلامية مساجد إلى جانب مدارس لتعليم الغناء. كان هناك عالم وشاعر ومغن وطبيب وحكواتي ومطبل وفقيه من حاشية السلطان، وآخر من معارضيه.
طبيعة المجتمعات البشرية وحاجة الإنسان
هذه هي طبيعة المجتمعات البشرية: تنوعها بحاجة إلى ثنائيات ترضي ضميرها، وتشبع تطلعاتها، وتلبي حاجات الإنسان الروحية والمادية، النبيلة منها والتافهة. لا يعني هذا التماهي مع المنكر، ولا التطبيع معه، ولا القبول به. لكن لا يحق لمن يشتغل بالدعوة إلى الله الاستعلاء على الخلق، والمناداة بالهلكة؛ لأن الناس ليسوا جميعًا على التصور أو النهج ذاته. فذلك مخالف لقانون التدافع المجتمعي منذ وجد الإنسان على ظهر البسيطة. الحرية في الاختيار جزء من الابتلاء الإلهي، كما قال جل شأنه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].
مهمة الإصلاح: توجيه التنوع نحو الخير
من هنا تنبثق مهمة الإصلاح: أن يُسهم المؤمن في إصلاح مجتمعه، وتعبيده لله، والأخذ بيده نحو الفطرة والحق، ليصل المجتمع إلى الله سالمًا معافى من آفات الطريق.
الإصلاح لا يعني القضاء على التنوع أو محاولة صهر الناس في قالب واحد، بل يعني توجيه هذا التنوع وضبطه بما يخدم الغايات الكبرى التي خُلِقَ الإنسان لأجلها. الناقد الذي يصوب الأغلاط، والمعلم الذي ينير العقول، والعالم الذي يحيي القلوب، والمبدع الذي يلهب المشاعر وينتزعها من غفلتها، كل هؤلاء شركاء في مهمة الإصلاح الكبرى، ولو بدت أدوارهم متناقضة في ظاهرها.
الحكمة والاعتدال في الإصلاح
حينما وقف النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب أصحابه، كان يعلم أنهم ليسوا على درجة واحدة من الإيمان والتقوى، وكان يراعي اختلاف أحوالهم. رأيناه يشدد على أبي ذر في قوله: (إنك امرؤ فيك جاهلية)، في حين يعذر شخصًا آخر لحكمة يراها. فالإصلاح يحتاج إلى الحكمة، وتقدير المآلات، وفهم السياقات.
آليات الإصلاح الناجح
قضت سُنّة التاريخ، وإلماعات العقول، أن المجتمع لا يُصلَح بالقهر، ولا بالعزل، ولا بإعلان الحرب على الفنون والثقافات المختلفة، بل بالحوار والتوازن، وببناء منظومات قيمية قادرة على استيعاب هذا التنوع وإدارته بما يحقق العدل والخير.
جوهر الإصلاح: التوجيه لا الإلغاء
في كل عصر، وُجد من يتقن التعبير عن الجمال ويُطرب الأرواح، ومن ينهض بالعقول ويثري الفكر، ومن يخدم الناس في حياتهم العملية والطبية. لم يكن الإصلاح يومًا بإلغاء هذه الأدوار، بل بتهذيبها، وتوجيهها نحو ما يليق بكرامة الإنسان وحضارته. فجوهر الإصلاح لا يكون بإلغاء الاختلاف، بل بتوجيهه نحو البناء.
الخلاصة: تذكير بالفطرة
تبقى رسالة المصلحين الأولى هي أن يعيدوا للناس علاقتهم بالله، لا بإرغامهم على السير في طريق واحد، ولكن بتذكيرهم بمنزلة الفطرة التي خُلِقوا عليها، {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 21-22]. ودعوتهم إلى الانسجام مع حقيقتهم العميقة التي تبحث عن الخير والجمال والحق.
اترك تعليقاً