في خضمّ التحديات والأزمات التي تعصف بنا، تبرز عبادة عظيمة غالبًا ما تُنسى: "التواصي بالصبر". إنها ليست مجرد فضيلة فردية، بل هي عمل جماعي يتطلب منا تفعيل الصبر المتبادل، دعم بعضنا البعض، وتقوية عزائمنا في مواجهة الصعاب.
انهيار الذات في زمن الإبادة: واقع مؤلم
في هذه الأيام العصيبة، نشهد انهيارًا للذوات، وهو أمر مفهوم ومبرر في ظلّ الظروف القاسية. فالمشهد اليومي للإبادة والظلم يترك آثارًا عميقة في نفوسنا، ويجعلنا نعيش في حالة من الصدمة المستمرة.
هواء العالم ملوث بالدماء، وطعامنا بنكهة الشعور بالذنب، بينما تحدث المجازر على مرمى حجر منا. هذا الواقع المرير يستدعي الحاجة إلى أدبيات جديدة تتناول "ملازمة الإبادة" أو "العيش مع الإبادة"، أدبيات تساعدنا على فهم المعاناة وتخفيف آثارها على الأفراد والمجتمعات.
إنّ معاناة الأب والأم، والطبيب والتاجر، في زمن الإبادة، هي معاناة مضاعفة، تتطلب منا وقفة تأمل ودعم.
سورة آل عمران: بروتوكول للمؤمنين في زمن الهزيمة
في هذه الظروف الصعبة، نستلهم العون من كلام الله. لقد أرشدني صديق إلى الثلث الأخير من سورة آل عمران، فوجدتها بمثابة بروتوكول ودليل للمؤمنين الحيارى في زمن الهزيمة. هذه الآيات تحمل قوة كامنة في بث العزيمة وإحياء النفوس، وتتضمن أربعة أبعاد رئيسية:
- استعادة الشعور بالعلو الحتمي والاستعلاء الحضاري: تذكير أنفسنا بقيمنا ومبادئنا السامية، وأننا أصحاب رسالة وهدف نبيل.
- ضرورة الصبر والاصطبار والتواصي به والتماسك الذاتي: التحلي بالصبر والثبات، وتشجيع بعضنا البعض على الاستمرار في مواجهة التحديات.
- ضرورة المرابطة وإحسان العمل فيما تجيد ومواصلته: الاستمرار في أداء واجباتنا ومسؤولياتنا على أكمل وجه، والمساهمة في بناء مجتمعنا.
- إخلاص النية من هذا كله بغاية التقوى وتجديدها: تجديد النية لله تعالى، والعمل بإخلاص وتقوى في كل ما نقوم به.
وقد أوضح العلامة السعدي أن التواصي بالصبر يشمل التواصي بالصبر على أقدار الله المؤلمة.
معاني المصابرة من منظور ابن القيم
ذكر ابن القيم معانٍ جميلة في المصابرة، تشمل:
- المثابرة في إنجاز الأعمال والمواظبة عليها.
- متابعة الأعمال وعدم اليأس من إنجازها.
- انتظار الفرج.
دورنا في دعم الآخرين: نبذ التشاؤم وبث الأمل
من الطبيعي أن يميل الناس نحو التشاؤم واليأس في هذه الأوقات الصعبة. ولكن، يجب علينا أن نتذكر أن كل فرد منا، بحسب موقعه، مطالب برعاية من حوله وتثبيتهم ودعمهم بالإيمان والأمل والصبر. هذا موقف نبيل لا علاقة له بالأوهام والوعود الكاذبة.
استلهام الحكمة من غرامشي: ضد التشاؤم
يقول المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي: ما الفرق بين النخب وباقي الناس إن كانت النخب ستنهزم أيضًا في الأوقات الصعبة؟ وما الفائدة في أن تكون مفكرًا أو مثقفًا إن كنت ستفرح في أوقات الرخاء وستتحطم في أوقات الانسداد التاريخي؟
هذا السؤال يذكرنا بمسؤوليتنا كأفراد واعين في دعم مجتمعاتنا في الأوقات الصعبة، وأن نكون مصدر إلهام وأمل للآخرين.
استعارة المنافقين: نور الإيمان في الواقع
يصف القرآن المنافقين بأنهم (كُلّما أضاء لهم مَشوا فيه) ولا يمشون إلا حين يضيء لهم البرق. أي أنهم لا يلتزمون بالإيمان إلا حين يكون الواقع مطابقًا لما يرغبونه.
علينا أن نتجنب هذا السلوك، وأن نلتزم بالإيمان في كل الظروف، وأن نسعى لنشر النور والأمل في قلوب الآخرين.
إدارة الخيبات واستعادة الأمل
علينا أن نعيد التفكير في ممكنات الفعل، وضرورة استعادة الأمل، وإعادة تعريف السياسة الحسنة بوصفها منطق إدارة الخيبات والانعتاق منها. السياسي الجيد هو من يحسن التقاط الفرصة من بين الشواش الذي تفرضه علينا حالة اللايقين.
درس التاريخ يعلمنا أننا يمكننا التعلم من خيباتنا، فالخيبات تنتج مطالب جديدة، وظروف جديدة، تمنح الساعين للإصلاح والتغيير دفعة وطاقة جديدة.
اترك تعليقاً