مقدمة: بين أسباب النجاح الظاهرة والتوفيق الخفي
قد يمتلك الإنسان كل المقومات الظاهرية للنجاح، من ذكاء وفطنة وجهد وعلاقات، لكنه يظل عاجزًا عن تحقيق ما يصبو إليه، غير سعيد، بل وحتى مُخْفِقًا. هذا يقودنا إلى إدراك أن هناك سرًا أعمق يكمن في مدى قربه أو بعده عن توفيق الله. فالتوفيق ليس مجرد حظ أو صدفة، بل هو عطاء إلهي يمنح لمن يستحقه، ويهيئ له الأسباب التي تقوده إلى الخير والفلاح.
ما هو التوفيق؟ تعريف شامل
التوفيق، لغةً، هو المطابقة بين شيئين، واصطلاحًا، هو إعانة الله للعبد وتيسيره له فعل الخير. يقول الراغب الأصفهاني أن التوفيق يختص بالخير دون الشر. أما ابن عاشور فيعرفه بأنه "جعل الشيء وفقًا لآخر؛ أي: طبقًا له، ولذلك عرفوه بأنه: خلق القدرة الداعية إلى الطاعة".
ويمكن تلخيص مفهوم التوفيق في النقاط التالية:
- إعانة خاصة من الله: مدد إلهي يقوي العبد ويدفعه نحو الطاعة والاستمرار عليها.
- تيسير الأسباب: تهيئة الظروف والأحوال التي تساعد العبد على تحقيق أهدافه.
- إلهام وهداية: توجيه العبد نحو الخير، وإرشاده إلى ما فيه مصلحته.
- موافقة بين كسب العبد والأسباب الكونية: فوز وفلاح في إصابة الإصلاح، يتوقف على التوفيق بين سعي العامل وموافقة الأسباب الخارجية التي يتوقف عليها النجاح.
التوفيق في العبادة والحياة: مدد من السماء
في مجال العبادة، يمثل التوفيق إعانة خاصة من الله للعبد، كأنه مدد يقويه ويدفعه إلى الطاعة. أما في الحياة، فهو تيسير للأسباب، وقضاء للحاجات بطرق غير متوقعة، كأنه إلهام من الله يدل العبد على الخير وييسره له.
مثال على ذلك:
- عندما سأل أبو داود الإمام أحمد: "جمعت هذا العلم لله؟"، أجاب الإمام: "لله عزيز، ولكن حُبِّب إليَّ أمرٌ ففعلته"، مشيرًا إلى توفيق الله له وتيسيره لهذه المهمة الشريفة.
أهمية التوفيق: حديث نبوي جليل
يؤكد النبي صلى الله عليه وسلم على أهمية التوفيق في حديثه: "إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا استعمله، فقيل: كيف يستعملُه يا رسولَ اللهِ؟ قال: يُوفِّقُه لعمَلٍ صالحٍ قبلَ الموتِ". فالتوفيق هو الذي يقود إلى حسن الخاتمة، وهو دليل على إرادة الله الخير بالعبد.
التوفيق لا يتعارض مع الأخذ بالأسباب
لا يتعارض التوفيق مع الأخذ بالأسباب الظاهرة، بل يكمّله. فالأخذ بالأسباب هو علامة عقلية وشرعية لحصول المسببات، والله أمرنا بالأخذ بالأسباب مع حسن التوكل عليه. فالأسباب لا تفعل فعلها بذاتها، وإنما بتقدير الله لها.
مثال على ذلك:
- هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، حيث أخذ بالأسباب الظاهرة من اختيار دليل خبير بالطرق، وتعيين من يقوم بأمر المعاش، وترتيب من يأتيه بأخبار العدو.
الخذلان: الوجه الآخر للعملة
الخذلان هو قسيم التوفيق، وهو عقوبة عاجلة تقع بسبب أفعال العبد الغافل، وضعف إرادته، واتباعه الشيطان، وانغماسه في الشهوات. الخذلان يعني تخلي الله عن العبد وعن نصرته وإعانته.
الخذلان هو:
- ترك الإعانة والنصرة.
- تخلي الله -تعالى- عن العبد وعن نُصرته وإعانته.
- تسليط شياطين الإنس والجن على العبد.
- وُكِلَ العبد إلى نفسه، ومَن وُكِلَ إلى نفسه فقد خسر خسرانًا مبينًا.
الآثار المترتبة على الخذلان: عواقب وخيمة
الخذلان له آثار وخيمة على حياة الفرد في الدنيا والآخرة، منها:
- انقلاب الأحوال: تعثر الحياة، والفشل في مختلف المجالات، والحرمان من العناية الإلهية.
- عدم الثبات على الإيمان: الخوف من سوء الخاتمة والموت على غير التوحيد.
- تسلُّط الأعداء: استباحة حرمات المخذولين من قبل أعدائهم.
- اللعن والطرد من رحمة الله: الحرمان من التوفيق والتبصر في دلائل الحق.
الاستدراج: عقوبة مُبَطَّنة
قد يظن البعض أن إقبال الدنيا على العبد هو دليل على التوفيق، وأن إدبارها هو دليل على الخذلان، وليس هذا صحيحًا دائمًا. فالله قد يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، وهذا هو الاستدراج، وهو عقوبة مبطنة من حيث لا يدري.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتَ الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب؛ فإنما هو استدراج".
الميزان الحقيقي: الطاعة في كلا الحالتين
المعيار الحقيقي للتوفيق والخذلان هو طاعة الله في كلا الحالتين، سواء في الرخاء أو الشدة. فمن وفقه الله ورزقه مالًا وجاهًا وعافية، ثم سخر ذلك كله في مرضاة ربه، فهذا من توفيق الله له. أما من سخر ذلك فيما يغضب الله، فهو خذلان.
خاتمة: بين التضرع والعمل
أساس كل خير أن يعلم العبد أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. فإذا تيقن العبد ذلك، فعليه أن يشكر الله على الحسنات ويتضرع إليه ألا يقطعها عنه، وأن يبتهل إليه أن يحول بينه وبين السيئات.
نسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يعيذنا من الخذلان وسوء العاقبة.
اترك تعليقاً