التوكل على الله: نور القلب وراحة الروح

التوكل على الله: نور القلب وراحة الروح

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

التوكل على الله، ذلكم المقام العظيم، والمنزلة الرفيعة التي يسعى إليها كل مؤمن صادق، ويتطلع إليها كل قلب سليم. إنه مفتاح السعادة، وباب الطمأنينة، وسبيل النجاة في الدنيا والآخرة. إنه شعور عميق باليقين، وثقة راسخة بالله، واعتماد كامل عليه في كل أمر، صغيره وكبيره، دقيقه وجليله.

التوكل ليس مجرد كلمة تقال باللسان، أو شعار يرفع في المناسبات، بل هو حالة قلبية، ومنهج حياة، يترجم إلى أفعال وسلوكيات، ويظهر في كل جوانب حياة المؤمن. إنه الاستسلام التام لمشيئة الله، والرضا بقضائه وقدره، مع بذل الأسباب المشروعة، والسعي الجاد لتحقيق الأهداف، مع الإيمان بأن النتائج بيد الله وحده.

التوكل في القرآن الكريم والسنة النبوية

لقد حث القرآن الكريم على التوكل في آيات كثيرة، وأشاد بأهل التوكل، ووعدهم بالخير العظيم، والأجر الجزيل. قال تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (المائدة: 23)، وقال: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ (الطلاق: 3)، وقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ (آل عمران: 159).

وفي السنة النبوية المطهرة، نجد أروع الأمثلة وأصدق النماذج للتوكل على الله في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله. فقد كان صلى الله عليه وسلم أعظم المتوكلين على الله، وقدوة المؤمنين في هذا المقام الجليل. كان يدعو ربه قائلاً: “اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت”.

وروى الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً”.

حقيقة التوكل ومفهومه

التوكل ليس تواكلاً، ولا يعني ترك الأسباب، والإخلاد إلى الراحة والدعة، بل هو كما قال العلماء: “الاعتماد على الله في جلب المنافع، ودفع المضار، مع فعل الأسباب المشروعة”. فالمؤمن المتوكل يسعى ويكدح، ويأخذ بالأسباب، ويبذل قصارى جهده، ثم يفوض أمره إلى الله، ويثق بأن الله سيختار له الخير، ويقدر له الأصلح.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “التوكل نصف الدين، والنصف الثاني الإنابة، فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة”.

درجات التوكل ومقاماته

للتوكل درجات ومقامات، يتفاوت فيها المؤمنون، بحسب قوة إيمانهم، وصدق يقينهم، وعمق معرفتهم بالله. فمنهم من يتوكل على الله في أمور الرزق، ومنهم من يتوكل عليه في الشفاء من الأمراض، ومنهم من يتوكل عليه في النصر على الأعداء، ومنهم من يتوكل عليه في جميع أموره، صغيرها وكبيرها.

وأعلى درجات التوكل هي: توكل الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، الذين استسلموا لله استسلاماً كاملاً، وفوضوا إليه أمورهم تفويضاً مطلقاً، ولم يتعلقوا بغيره، ولم يرجوا سواه.

آثار التوكل وثمراته

للتوكل على الله آثار عظيمة، وثمرات جليلة، تظهر في حياة المؤمن في الدنيا والآخرة. فمن هذه الآثار:

  • قوة القلب وثباته: فالمتوكل على الله لا يخاف ولا يحزن، ولا يضعف ولا يستكين، بل يظل قوياً ثابتاً، مهما اشتدت الخطوب، وتعاظمت الكروب، لأنه يعلم أن الله معه، ولن يخذله.
  • راحة البال وطمأنينة النفس: فالمتوكل على الله يعيش في سكينة وهدوء، وطمأنينة ورضا، لأنه يعلم أن الله كافيه، وحسبه، ووكيله، وأنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله له.
  • تيسير الأمور وتذليل الصعاب: فالمتوكل على الله يجد أن الله ييسر له أموره، ويفتح له أبواب الخير، ويهيئ له الأسباب، ويذلل له الصعاب، لأنه اعتمد عليه، وفوض أمره إليه.
  • الرزق الواسع والخير العميم: فالمتوكل على الله يرزقه الله من حيث لا يحتسب، ويوسع عليه رزقه، ويكثر خيره، لأنه آمن بالله، وتوكل عليه، وأحسن الظن به.
  • النصر على الأعداء والظفر بالمطلوب: فالمتوكل على الله ينصره الله على أعدائه، ويظفره بمطلوبه، ويحقق له ما يريد، لأنه استعان بالله، واعتصم به، وتوكل عليه.
  • الفوز بالجنة والنجاة من النار: فالمتوكل على الله يفوز برضا الله وجنته، وينجو من سخطه وناره، لأنه أطاع الله، وتوكل عليه، وأخلص له العبادة.

نماذج من المتوكلين

لقد ضرب لنا القرآن الكريم والسنة النبوية أروع الأمثلة وأصدق النماذج للمتوكلين على الله، لنتعلم منهم، ونسير على دربهم.

  • النبي محمد صلى الله عليه وسلم: عندما هاجر من مكة إلى المدينة، واختبأ في الغار، قال لصاحبه أبي بكر: “لا تحزن إن الله معنا”. فأنزل الله سكينته عليه، وأيده بجنود من عنده.
  • إبراهيم عليه السلام: عندما ألقي في النار، قال: “حسبي الله ونعم الوكيل”. فكانت النار برداً وسلاماً عليه، بأمر الله.
  • موسى عليه السلام: عندما أدركه فرعون وجنوده، قال أصحابه: “إنا لمدركون”. فقال موسى: “كلا، إن معي ربي سيهدين”. فنجاه الله وأغرق فرعون وجنوده.
  • أم موسى عليه السلام: عندما ألقت ولدها في اليم، خوفاً عليه من فرعون، توكلت على الله، وأيقنت بأن الله سيحفظه ويرده إليها، فكان كما ظنت، ورده الله إليها، وجعله من المرسلين.

كيف نحقق التوكل؟

تحقيق التوكل على الله يتطلب منا عدة أمور:

  1. معرفة الله حق المعرفة: فكلما ازددنا معرفة بالله، وبأسمائه وصفاته، وأفعاله، ازددنا توكلاً عليه، وثقة به.
  2. الإيمان بقضاء الله وقدره: فالمؤمن المتوكل يؤمن بأن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
  3. بذل الأسباب المشروعة: فالتوكل لا يعني ترك الأسباب، بل يعني الأخذ بها، مع الاعتماد على الله في تحقيق النتائج.
  4. الدعاء والتضرع إلى الله: فالدعاء سلاح المؤمن، ومفتاح الفرج، وسبيل تحقيق المطلوب، فالمتوكل يدعو ربه ويتضرع إليه، ويسأله من فضله، ويستعين به في كل أمره.
  5. حسن الظن بالله: فالمتوكل يحسن الظن بربه، ويثق بأنه لن يخذله، وأنه سيختار له الخير، ويقدر له الأصلح.
  6. قطع العلائق بغير الله: فالمتوكل لا يتعلق بغير الله، ولا يرجو سواه، ولا يخشى إلا الله، فهو يعلم أن النفع والضر بيد الله وحده.

التوكل في مواجهة التحديات

نحن نعيش في عالم مليء بالتحديات والصعاب، والمؤمن المتوكل هو الأقدر على مواجهة هذه التحديات، والتغلب على هذه الصعاب، لأنه يملك سلاحاً قوياً، وعدة متينة، وهو التوكل على الله.

فعندما يواجه المؤمن مشكلة أو أزمة، فإنه يلجأ إلى الله، ويتوكل عليه، ويسأله العون والمدد، ويستعين به في إيجاد الحلول، ويوقن بأن الله معه، ولن يخذله. وعندما يصاب بمرض أو بلاء، فإنه يصبر ويحتسب، ويتوكل على الله في الشفاء، ويوقن بأن الله أرحم به من نفسه، وأنه سيشفيه ويعافيه. وعندما يتعرض لظلم أو عدوان، فإنه يفوض أمره إلى الله، ويتوكل عليه في رد الظلم، ودفع العدوان، ويوقن بأن الله سينصره ويؤيده.

التوكل في الحياة اليومية

التوكل ليس قاصراً على الأمور الكبيرة والمهمة، بل هو مطلوب في كل شؤون الحياة، صغيرها وكبيرها. فالمؤمن يتوكل على الله في طعامه وشرابه، وفي نومه ويقظته، وفي عمله وكسبه، وفي زواجه وتربيته لأولاده، وفي كل حركة وسكنة من حركات وسكنات حياته.

فإذا خرج من بيته، توكل على الله وقال: “بسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله”. وإذا بدأ عمله، توكل على الله وسأله التوفيق والبركة. وإذا واجه صعوبة، توكل على الله واستعان به في تجاوزها. وإذا أصابه خير، شكر الله وتوكل عليه في حفظه وزيادته.

التوكل واليقين

التوكل واليقين صنوان متلازمان، لا ينفصلان، فكلما قوي اليقين في القلب، قوي التوكل على الله. واليقين هو الإيمان الجازم بالله، وبأسمائه وصفاته، وأفعاله، وبوعده ووعيده، وبأنه لا إله إلا هو، ولا رب سواه.

فالمؤمن الموقن يعلم أن الله هو الخالق الرازق، المحيي المميت، النافع الضار، المعطي المانع، وأنه بيده ملكوت كل شيء، وأنه على كل شيء قدير. ويعلم أن الله أرحم به من أمه وأبيه، وأنه ألطف به من نفسه، وأنه لا يريد به إلا الخير، وأنه لا يقضي له إلا ما هو أصلح له. ويعلم أن الله لا يخلف الميعاد، وأنه سينصره ويؤيده، ويحفظه ويرعاه، ويكفيه ويغنيه، ويشفيه ويعافيه.

فإذا رسخ هذا اليقين في القلب، اطمأن القلب وسكن، وزال عنه القلق والاضطراب، والخوف والوجل، وحل محله الأمن والسكينة، والطمأنينة والرضا، وأصبح صاحبه من المتوكلين حقاً.

التوكل والتفاؤل

التوكل يورث التفاؤل، ويبعث الأمل في النفس، ويشرح الصدر، وينير القلب. فالمتوكل على الله لا ييأس ولا يقنط، ولا يستسلم للصعاب، بل يظل متفائلاً، واثقاً بنصر الله، مؤملاً في فرجه، راجياً في رحمته.

وذلك لأن التوكل يعكس حسن الظن بالله، والثقة به، والاعتماد عليه. والمتوكل يعلم أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وأنه مع الصابرين، وأنه ينصر المظلومين، وأنه يفرج عن المكروبين، وأنه يرزق من حيث لا يحتسب.

فإذا كان المؤمن متوكلاً على الله، فإنه يكون دائماً متفائلاً، ينظر إلى الحياة بعين الرضا والأمل، ويتوقع الخير في كل أمر، ويسعى إلى تحقيق أهدافه وطموحاته، بعزيمة وإصرار، وثقة ويقين.

التوكل والرضا

التوكل يؤدي إلى الرضا بقضاء الله وقدره، والتسليم لمشيئته، والاطمئنان إلى حكمته. فالمتوكل يعلم أن الله لا يقضي إلا بالحق، ولا يفعل إلا الخير، وأنه أرحم بعباده من أنفسهم، وأنه أعلم بمصالحهم منهم.

فإذا أصاب المتوكل خير، شكر الله وحمده، وازداد إيماناً ويقيناً، ورجاءً في ربه. وإذا أصابه شر، صبر واحتسب، ورضي بقضاء الله، وسأله العوض والأجر، وعلم أن الله لا يظلم مثقال ذرة، وأنه سيجعل له من بعد عسر يسراً.

فالرضا ثمرة من ثمرات التوكل، وعلامة من علامات الإيمان الصادق، ودليل على قوة اليقين بالله، وكمال التسليم له.

التوكل والاستقامة

التوكل يدعو إلى الاستقامة على أمر الله، والالتزام بشرعه، والتمسك بهديه، والبعد عن معصيته. فالمتوكل يعلم أن الله هو الحق، وأن دينه هو الحق، وأن طريقه هو الحق، وأنه لا نجاة ولا فلاح إلا بالاستقامة على هذا الحق.

فإذا كان المؤمن متوكلاً على الله، فإنه يسعى جاهداً إلى تحقيق الاستقامة في أقواله وأفعاله، وفي نيته وعمله، وفي سره وعلانيته، ويجعل الله نصب عينيه، ومراقباً عليه، في كل لحظة من لحظات حياته.

فالتوكل والاستقامة متلازمان، لا ينفصلان، فكلما قوي التوكل في القلب، قويت الاستقامة في السلوك، وكلما ضعفت الاستقامة، ضعف التوكل.

التوكل والتوحيد

التوكل هو من صميم التوحيد، وجزء لا يتجزأ منه، بل هو حقيقة التوحيد ولبه. فالمتوكل لا يتوكل إلا على الله، ولا يرجو إلا الله، ولا يخاف إلا الله، ولا يعبد إلا الله، ولا يستعين إلا بالله.

فالتوكل هو إفراد الله بالاعتماد، وتجريده من الشركاء والأنداد، وإخلاص العبادة له وحده، دون سواه. فمن توكل على غير الله، فقد أشرك، ومن استعان بغير الله، فقد أشرك، ومن رجا غير الله، فقد أشرك.

فالتوحيد والتوكل هما وجهان لعملة واحدة، لا ينفصلان، ولا يستقيم أحدهما إلا بالآخر.

الخاتمة

التوكل على الله هو نور القلب، وراحة الروح، وسعادة الدنيا، ونجاة الآخرة. إنه المقام العظيم، والمنزلة الرفيعة، التي يسعى إليها كل مؤمن صادق، ويتطلع إليها كل قلب سليم. إنه مفتاح الفرج، وسبيل النصر، وطريق العزة، ومنهج السعادة.

فلنجعل التوكل على الله شعارنا، ومنهج حياتنا، ودليلنا في كل أمر، صغيره وكبيره، دقيقه وجليله، ولنحسن الظن بالله، ونثق به، ونعتمد عليه، ونسأله العون والتوفيق، والسداد والهداية، والرشاد والتأييد، والنصر والتمكين.

اللهم اجعلنا من المتوكلين عليك حق التوكل، والمفوضين إليك حق التفويض، والراضين بقضائك وقدرك، والصابرين على بلائك، والشاکرين لنعمائك، والمستقيمين على أمرك، والمخلصين في عبادتك، والفائزين برضاك وجنتك، والناجين من سخطك ونارك.

اللهم آمين، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *