القرآن وتغيير الذات: لماذا لا نزال كما نحن؟


القرآن الكريم، كلام الله الخالد، هو حبل النجاة الذي دعانا الله للاعتصام به، ومصدر الهداية والنور الذي يضيء لنا دروب الحياة. إنه ليس مجرد كتاب يُقرأ، بل هو دستور حياة، وشفاء للصدور، ورحمة للمؤمنين. فلماذا، إذن، لا نرى أثر القرآن في حياتنا كما رأيناه في حياة الصحابة الكرام؟

القرآن: روح للقلب ونور للعقل

القرآن الكريم هو الروح التي تحيي القلوب، والنور الذي يضيء العقول في ظلمات الجهل والحيرة. هو الذكر والشرف والمجد، والنعمة العظيمة التي لا نقدرها حق قدرها. إنه يرفع أرواحنا من حضيض المادة إلى آفاق السمو الروحي.

قال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} [الزخرف: 43]
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]
وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]
وقال تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 10]
وقال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَذَهَبْنَا بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 86].

الصحابة والقرآن: قصة تغيير حقيقي

لقد فهم الصحابة الكرام قيمة القرآن حق الفهم، وتعاملوا معه على أنه منهج حياة، ودستور عمل، ورسائل مباشرة من الله إليهم. كانت السيدة عائشة تصف النبي صلى الله عليه وسلم قائلة: "كان خلقه القرآن". كانوا وقافين عند حدود الله، يتأثرون بالآيات ويتفاعلون معها، فيغيرون سلوكهم وأفعالهم.

  • أبو بكر الصديق: عندما منع النفقة عن مسطح، ثم تلا قوله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]، رجع فأعطاه ما كان يعطيه من قبل.
  • عند الغضب: إذا غضب أحد الصحابة، وذُكِّر بآية: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]، رجع عن غضبه وعفا وصفح.

لقد تغيَّر الصحابة بالقرآن من الكفر إلى الإيمان، لأنه أعاد تشكيل أفكارهم وعقولهم ومشاعرهم وقلوبهم وسلوكهم وأجسادهم وهمومهم وآمالهم وقيمهم وأخلاقهم.

أين نحن من هذا التغيير؟

أما نحن، فنسمع الآيات ولا نتغير، نسمع: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا} [النور: 30]، ولا نغض أبصارنا. نسمع: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران: 134]، ولا نكظم غيظنا. نسمع عن النار، فلا نتأثر. نسمع نداءات "يا أيها الذين آمنوا"، فلا ننتبه لما يأتي بعدها.

  • لماذا؟ لأننا لا نتعامل مع القرآن على أنه كتاب هداية من ربنا، بل همُّ أحدنا أن يصل إلى آخر السورة وآخر الختمة، دون أن يعي منها حرفًا أو معنى يخاطب قلوبنا ويؤثر فيها.
  • كيف؟ نقرؤه كقراءة الجرائد والروايات، بل قد نركز في قراءة الأخبار والقصص والروايات أكثر مما نركز في سماع وقراءة القرآن. لا نقرؤه على مكث كما أمرنا الله، بل على استعجال، فمن ثَم لا يُحدث تغييرًا في قلوبنا وسلوكنا.

مشكلتنا مع القرآن أننا نتعامل معه على أنه كتاب لجمع الحسنات عن طريق القراءة فقط، لا نتعامل معه على أنه كتاب هداية لأرواحنا، وتأثير لقلوبنا، وبصائر لعقولنا، وتغيير لجوارحنا، وشفاء لأجسادنا.

حتى الكفار تأثروا بالقرآن!

حتى الكفار كانوا يتأثرون بسماع القرآن، كانوا يتسللون سرًّا لسماع تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن؛ لأنهم كانوا يدركون بلاغته وتأثيره القوي. حتى نساؤهم وأطفالهم كانوا يتأثرون بالقرآن، مما أقلق سادة قريش.

وهذا جبير بن مُطعم يقول عندما كان مشركًا: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35]، كاد قلبي أن يطير".

فإذا كان هؤلاء المشركون يتأثرون بالقرآن، فما بالنا نحن لا نتأثر؟ هل قست قلوبنا فكانت كالحجارة أو أشد قسوة؟ فإن الجبال أيضًا تخشع لذكر الله.

كيف نبني علاقة صحبة ومعايشة جديدة مع القرآن؟

  1. الفرح بالقرآن: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]. فلنفرح بأن الله أنزل علينا كتابه نورًا وهداية إلى الصراط المستقيم.
  2. فهم المعاني: أن نولي اهتمامًا بفهم المعاني، كما نحرص على ضبط الكلمات والمبنى. نبدأ بفهم غريب الكلمات القرآنية من بعض الكتب البسيطة المختصرة.
  3. القراءة على مكث: أن نقرأ على مكث ونحاول تفهم الآية، فإن لم نفهم معناها، نرجع لكتب التفسير البسيطة والمختصرة كمرحلة أولى.
  4. تفريغ القلب: أن نفرِّغ أنفسنا وأذهاننا من الشواغل، ونحرر قلوبنا من معاصي القلوب لتتطهر وتتفرغ لتلقِّي معاني القرآن العظيمة.
  5. الاستماع بتركيز: أن نسمع، بل نستمع إلى القرآن بتركيز وإنصات: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٞ} [ق: 37].
  6. اقتداء بالنبي والصحابة: أن نعرف كيف كان تعامل النبي والصحابة مع القرآن، هل كان تركيزهم منصبًّا على القراءة فقط، أو القراءة والفهم والتدبر، وإعمال القلب، والتفاعل معه؟

تدبر آية خير من ختمة بلا تدبر

يقول ابن القيم: "فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر؛ فإنه جامع لجميع منازل السائرين، وأحوال العاملين، ومقامات العارفين، وهو الذي يُورث المحبة، والشوق، والخوف، والرجاء، والإنابة، والتوكل، والرض

المصدر: موقع طريق الإسلام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *