القلق: شبح العصر الحديث
في خضمّ عالمٍ يموج بالأخبار المتضاربة، وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي المتزايد، وتعقيدات الحياة العصرية التي لا تنتهي، أصبح القلق رفيقًا ملازمًا للكثيرين. إنه شعور خفيّ، لا يُرى بالعين المجردة، لكنه يفرض سيطرته على الصدور، ويعكر صفو القلوب، ويُقلق المنام، ويُنهك الجسد، ويُشتت التفكير. فما هو هذا الزائر الثقيل؟ وهل هو مجرد اضطراب نفسي عابر، أم أنه حالة أعمق ترتبط بالإيمان والروح، وتستدعي علاجًا من نوعٍ آخر؟
عندما تهاجمك الأفكار: القلق كصرخة استغاثة
يقول فيكتور فرانكل، عالم النفس النمساوي ومؤسس العلاج بالمعنى: "القلق ليس دائمًا مرضًا، بل قد يكون صرخة من النفس تطلب المساعدة." وهذا القول يلخص جوهر الأمر. فالقلق في أصله ليس مشكلة بحد ذاته، بل هو مؤشر ينبهنا إلى وجود خلل ما. هو ذلك الإحساس المزعج بأن شيئًا سيئًا قد يحدث، حتى وإن لم يكن هناك سبب واضح ومباشر.
قد يبدأ القلق كشعور بسيط قبل امتحان مصيري، أو مقابلة عمل حاسمة، أو حتى لقاء اجتماعي عادي. لكنه سرعان ما يتحول إلى قيد خانق يمنع صاحبه من الاستمتاع بلحظات الحياة الجميلة.
وفقًا لعلم النفس، يرتبط القلق ارتباطًا وثيقًا بفرط التفكير المستمر، والخوف المبالغ فيه من المستقبل المجهول، ومحاولة السيطرة على أمور خارجة عن إرادتنا.
وعندما تستمر هذه المشاعر السلبية وتتفاقم، تبدأ الأعراض الجسدية بالظهور، مثل:
- خفقان القلب المتسارع.
- ضيق التنفس والشعور بالاختناق.
- الأرق المزمن واضطرابات النوم.
- وفي بعض الحالات، نوبات الهلع المفاجئة.
عندما يتحدث الشرع: القلق ابتلاء له دواء
الإسلام دين شامل ومتكامل، أتى بالتوازن بين الروح والجسد، وبين القلب والعقل. لذا، لابد أن يكون له رأي وحلول في التعامل مع هذه المشكلة المتفشية. يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}[البلد:4]. فالإنسان بطبيعته مُعرّض للعناء والمشقة، ومن ضمن ذلك القلق.
المؤمن ليس معصومًا من الشعور بالضيق أو الخوف، بل هو من يسعى جاهدًا لتجاوز هذه المشاعر السلبية بالإيمان والعمل الصالح.
قال ابن القيم رحمه الله: "القلق والهم نصف المرض، والتوكل نصف الدواء." فهل هناك وصفة علاجية أبلغ وأجمل من هذا التوازن؟
الإسلام لا ينكر وجود القلق، ولكنه يوجهنا إلى كيفية التعامل معه بطريقة صحيحة: لا بالهروب منه أو إنكاره، بل بالربط بين الأخذ بالأسباب المادية والمعنوية، والتسليم لقضاء الله وقدره.
وقال ابن القيم رحمه الله: "(إذا أصبحَ العبدُ وأمسَى وليس هَمُّه إلا الله وحده؛ تَحَمَّلَ اللهُ سبحانه حوائجَه كلَّها، وحَمَلَ عنه كلَّ ما أهمَّهُ، وفرَّغَ قلبَه لمحبَّتِه ولسانَه لذكرِه وجوارحَه لطاعتِه. وإن أصبح وأمسى والدُّنيا همُّهُ؛ حَمَّلهُ اللهُ همومَها وغُمومَها وأنكادَها، وَوَكَلَه إلى نفسه)."
تعلق القلب بالله وحده: ملاذ الأمان
يقول ابن القيم رحمه الله: "(ومن علامات صحة القلب أنه لا يزال يضرب على صاحبه حتى ينيب إلى الله ويخبت إليه، ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلى محبوبه، الذى لا حياة له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا برضاه وقربه والأنس به، فبه يطمئن، وإليه يسكن، وإليه يأوى، وبه يفرح، وعليه يتوكل، وبه يثق، وإياه يرجو، وله يخاف. فذكره قوته وغذاؤه ومحبته، والشوق إليه حياته ونعيمه ولذته وسروره، والالتفات إلى غيره والتعلق بسواه داؤه، والرجوع إليه دواؤه، فإذا حصل له ربه سكن إليه واطمأن به وزال ذلك الاضطراب والقلق، وانسدت تلك الفاقة، فإن فى القلب فاقة لا يسدها شىء سوى الله تعالى أبدا، وفيه شعث لا يلمه غير الإقبال عليه، وفيه مرض لا يشفيه غير الإخلاص له، وعبادته وحده، فهو دائما يضرب على صاحبه حتى يسكن ويطمئن إلى إلهه ومعبوده، فحينئذ يباشر روح الحياة، ويذوق طعمها، ويصير له حياة أخرى غير حياة الغافلين المعرضين عن هذا الأمر الذى له خلق الخلق)."
منهج نبوي في إدارة القلق: البلسم الشافي
كان النبي صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بأمّته، وأكثرهم فهمًا لطبيعة النفس البشرية وتقلباتها. وعندما شعر الصحابة بالقلق والضيق، قدّم لهم حلولًا عملية وواقعية، تجمع بين الجانب الروحي والنفسي.
في أحد الأدعية التي كان يوصي بها: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحَزَن، وأعوذ بك من العجز والكَسَل، وأعوذ بك من الجُبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال» (رواه البخاري).
لاحظ كيف جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين أمراض النفس (الهم، الحزن) والضغوط المالية والاجتماعية، وكأنه يرسم خريطة شاملة ومتكاملة لعلاج القلق.
كما أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما أصاب عبدًا همّ ولا حزن، فقال اللهم إني عبدُك، وابنُ عبدِك وابنُ أمتِك، ناصيتي بيدِك، ماضٍ فيّ حكمُك، عدلٌ فيّ قضاؤُك، أسألُك بكلِّ اسمٍ هو لك، سميتَ به نفسَك، أو أنزلتَه في كتابِك أو علمته أحدًا من خلقِك، أو استأثرت به في علمِ الغيبِ عندك أن تجعلَ القرآنَ ربيعَ قلبي، ونورَ صدري، وجلاءَ حزني، وذهابَ همي وغمي إلا أذهب الله همّه وحزنه، وأبدله مكانه فرحًا» (رواه أحمد).
هل هناك دعم نفسي أعظم وأجلّ من هذا الدعاء النبوي الشريف؟!
ماذا يقول الأطباء؟ العلم الحديث يؤكد
يؤكد الطب النفسي الحديث أن القلق قابل للعلاج بفعالية عالية. ولكنّ التحدي الأكبر يكمن في الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالأمراض النفسية، والخوف من الاعتراف بالمعاناة وطلب المساعدة.
العلاج قد يكون دوائيًا في الحالات الحادة والشديدة، ولكن الأهم هو العلاج المعرفي السلوكي (CBT)، الذي يُدرّب الإنسان على مواجهة أفكاره السلبية، وتغيير أنماط التفكير الخاطئة، بدلًا من الهروب منها أو تجاهلها.
واللافت أن هذا العلاج يرتكز بشكل أساسي على فكرة إعادة هيكلة التفكير السلبي، وهي ذات الفكرة التي يوصي بها الإسلام حين يعلّمنا أن نستبدل التشاؤم بالتفاؤل، والقلق بالتوكل على الله، والضيق بالصبر والاحتساب.
لقد أثبتت الدراسات الحديثة أن العلاج باليقين بالله يعطي نتائج قوية وملموسة في حالات القلق، خاصة حين يتم دمج الذكر، والدعاء، والصلاة، ضمن خطة التعافي.
كيف تهزم القلق؟ خطوات عملية
- عُد إلى الله: ليس مجرد كلام عابر أو نصيحة تقليدية، بل عودة حقيقية وصادقة إلى الطمأنينة التي تنبع من الثقة بالله، واليقين بأنه لن يُضيّع عبدًا لجأ إليه وتوكل عليه.
- تحدث عن مخاوفك: لا تخجل من قول: "أنا قلق". الحديث عن المشاعر السلبية هو أول خطوات التحرر منها.
- ابحث عن المعنى: القلق غالبًا ما يكون ناتجًا عن غياب الهدف في الحياة. حين تعرف لماذا تعيش، وما هو رسالتك في هذه الدنيا، تهدأ مشاعرك وتستقر نفسك
اترك تعليقاً