النقد البناء: كيف نحول شهوة التجريح إلى وقود للإصلاح؟

مقدمة: سموم النقد الهدام في ساحات التربية والعلم

في خضمّ مسيرة العمل التربوي والعلمي، تظهر للأسف ظاهرة مقلقة: نزعة التقليل من شأن الآخرين، والتعليقات الساخرة التي تستهدف المشاريع العلمية والبرامج التربوية، حتى تلك التي تنطلق من نوايا حسنة وأهداف نبيلة. هذه الظاهرة، التي تجاوزت كونها مجرد حالات فردية، تحولت لدى البعض إلى "عادة ذهنية" متجذرة، حيث يتبع كل مشروع ناجح سيل من التعليقات الساخرة، والمقارنات الجارحة، واللمز الذي يهدم البناء باسم التقييم.

الفضاء الافتراضي: مرتع خصب للنقد المستتر

الأخطر من ذلك، أن هذه اللغة المسمومة لم تقتصر على الواقع، بل وجدت في الفضاء الافتراضي بيئة مثالية للتكاثر والانتشار. هنا، يمارس "النقد المستتر"، و"المقارنة الناقمة"، و"التحليل غير المسؤول" بحرية تامة، وكل ذلك تحت ستار "النية الحسنة" و"الحرص على المصلحة".

النية الحسنة لا تبرر الخلل المنهجي

تحت هذه اللافتات الملطفة، يتسرب داء القيل والقال، ليس ككلام عابر، بل كمنهج متكامل يهدف إلى تفتيت المشاريع، وإضعاف ثقة الطاقات، وزرع فكرة النقد قبل الفهم، والشك قبل التثبت، والظن السيئ كـ "حرص شرعي" طالما أنه مغلف بمصطلحات دينية. إن أخطر ما في هذا المسلك هو أن "النيات الحسنة" لا تكفي لتبرير خلل منهجي في النقد، فكم من مريد للخير لم يصبه، وكم من ناصح جَرّ بعفويته تشويهًا بدلًا من التقويم.

النقد البناء: ضرورة حضارية لا شهوة نفسية

النقد في جوهره ليس مذمومًا، بل هو ضرورة حضارية ومكون أساسي في البناء العلمي. لكن الإشكال يكمن في تحوله إلى شهوة نفسية لا غيرة منهجية، وحين يصبح التركيز على "الخلل" في المشروع هو المدخل الوحيد للتقييم، دون اعتبار للمصالح، أو الجهود المبذولة، أو السياقات المحيطة. هذا النوع من النقد ليس نابعًا من معيار علمي، بل هو تفريغ لانطباع نفسي لم يُضبط بمنهاج شرعي ولا خلق علمي.

العوالم الافتراضية: مضاعفة الأذى وتسريع الأحكام

"القلوب أوعية، فإذا امتلأت بشهوة الحديث عن الناس، فرغت من هَمّ الحديث إلى الله". هذه الظاهرة، وإن كانت حاضرة في الواقع، تتضخم أضعافًا في العوالم الافتراضية، حيث يمكن لتغريدة عابرة أن تقضي على جهد سنوات. في هذا العالم المتسارع، تنتشر الأحكام والتهم بسرعة البرق، وتُخزّن الكلمات في أرشيف رقمي لا ينسى، مما يضاعف الأذى ويجعل البقاء للأقوى، لا للأصدق.

موازين النبل: الإنصاف عند اختلاف الرؤى

في زمن تتسارع فيه اللغة وتتفتح فيه ساحات الرأي، تضيق القلوب عن رؤية نجاح الآخرين بهدوء، فتستفحل أمراض النقد المسموم، وتتلبس لباس الحرص، وتغلف بلغة "التقويم"، بينما تحمل في باطنها غياب الورع، وضيق الصدر، وحب التصدر.

هنا، يحسن بنا أن نتأمل مشهدًا قرآنيًا عظيمًا يعيد إلينا ميزان الإنصاف عند اختلاف الرؤية، خاصة في المشاريع الكبرى: ﴿ {قال يا ابنَ أُمَّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، إني خشيتُ أن تقول فرّقتَ بين بني إسرائيل ولم تَرْقُب قولي} ﴾. هذا الحوار بين موسى وهارون عليهما السلام، يحمل دروسًا عظيمة، فموسى، النبي الكريم، غضب لله عندما وجد قومه قد فُتنوا، ولام أخاه على ما بدا له تقصيرًا. لكن هارون لم يدافع عن نفسه، بل قدم النية والخشية من مآلات الفرقة، وحذر من استغلال الأعداء للواقعة.

"فلا تشمت بي الأعداء": قاعدة أخلاقية في النقد الإصلاحي

"فلا تشمت بي الأعداء" قاعدة أخلاقية كبرى في نقد العمل الإصلاحي: أن لا يُقدّم نقدك هدية مجانية لأعداء الدين، وأن لا يكون نقد القريب سببًا لشماتة الغريب، حتى وإن كنت محقًا في أصل الملاحظة. تذكر حديث هارون في لحظة النزاع الداخلي حول خطر تحول الخصومة إلى مادة شماتة لأعداء الرسالة. فما بالك بمن يبسط الخلافات التربوية والاختلافات الإدارية والملاحظات على المشاريع العلمية في كل فضاء، دون اعتبار لعدو يتربص، أو جاهل يتأثر، أو مبتدئ قد يتراجع؟

خاتمة: نحو نقد بناء يثري ولا يهدم

أليس من العقل والديانة أن نزن كلماتنا بموازين النبل، وأن لا نُسلم أخطاء المصلحين لأفواه المشككين، وأن ننتصر للحق دون أن نهدم جسور الثقة بين أهل الحق أنفسهم؟ فلئن كان الإصلاح فرضًا، فـ "حسن البيان" في الإصلاح أدب واجب، وإن القسوة في الطرح لا تدل بالضرورة على صدق الغيرة.

اجعل النقد شعلة بناء لا نار حطب، واكتم الظنون كما تكتم الزلات، ورحم الله من أصلح وهو يُجِلّ، ونصح وهو يتألّم، ووعظ وهو يتقي الله أن يُشمت بالأخيار.

المصدر: موقع طريق الإسلام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *