تآكل الأمم في ميزان الوحي: قراءة في سُنن التغيير والتمكين


تتضمن الآيات الكريمة من سورة الرعد (41-42) رؤية عميقة لسُنن الله في التغيير والتمكين، حيث تكشف عن حقيقة أن الهزائم لا تأتي فجأة، ولا تسقط الحضارات دفعة واحدة، بل تتآكل الأطراف تدريجيًا في صمت، وهو تآكل لا تظهره الخرائط الإخبارية، بل يدركه أصحاب البصائر المتعمقة في فهم السنن الإلهية.

نظرة في الآيات الكريمة: هندسة التآكل والتمكين

يقول تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ۝ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: ٤١–٤٢].

تكمن في هذه الآيات هندسة ربانية دقيقة تتجلى في سُنن التآكل والتمكين. فالهزائم لا تقع فجأة، ولا تسقط الحضارات دفعة واحدة، بل تبدأ الأطراف بالتفكك، شيئًا فشيئًا، في تآكل صامت لا يُرى في خرائط النشرات، بل يُدرك ببصيرة السنن.

تفسير السعدي: رؤى متعددة في معنى النقص

يرى العلامة السعدي رحمه الله في تفسيره لهذه الآيات، أنها تحمل وعيدًا للمكذبين، ويقدم تفسيرات متعددة لمعنى "نقص الأرض من أطرافها":

  • إهلاك المكذبين واستئصال الظالمين: كتعبير عن العقاب الإلهي الذي يطال من كذبوا بآيات الله.
  • فتح بلدان المشركين ونقصهم في أموالهم وأبدانهم: كتجسيد لضعفهم أمام قوة الحق وانتصاره.
  • معنى أعم يشمل كل أشكال النقص: كتنبيه للمكذبين قبل أن يحل بهم العذاب الشامل الذي لا يرد.

ويضيف السعدي أن المراد هو أن الله يفتح أراضي المكذبين ويجتاحها، ويحل القوارع بأطرافها، وذلك كتنبيه لهم قبل أن يجتاحهم النقص ويوقع الله بهم من القوارع ما لا يردُّه أحدٌ.

حكمة الله المطلقة وسرعة حسابه

يؤكد قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} على أن حكم الله شامل، يشمل الحكم الشرعي والقدري والجزائي. هذه الأحكام تتسم بالغاية في الحكمة والإتقان، ولا تشوبها شائبة نقص أو خلل، بل تقوم على القسط والعدل والحمد. لا يمكن لأحد أن يعقب على حكمه أو ينتقده، بخلاف حكم البشر الذي قد يصيب وقد يخطئ.

أما قوله تعالى: {وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}، فيشير إلى أن العذاب قد يبدو بعيدًا، لكن كل ما هو آت قريب، فلا يستعجلوا بطلب العذاب، فهو قادم لا محالة.

دروس مستفادة:

  • فهم سُنن الله في التغيير: يجب علينا أن ندرك أن التغيير لا يحدث فجأة، بل هو عملية تدريجية تتطلب منا اليقظة والاستعداد.
  • الاعتبار من الأمم السابقة: يجب أن نتعلم من تاريخ الأمم السابقة وكيف تآكلت حضاراتها بسبب أفعالها.
  • الاستعداد ليوم الحساب: يجب أن ندرك أن الله سريع الحساب، وأننا سنحاسب على كل أفعالنا.
  • التمسك بالحق والعدل: يجب أن نتمسك بالحق والعدل في كل جوانب حياتنا، حتى ننال رضا الله ونتجنب عذابه.

المصدر: موقع طريق الإسلام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *