المقدمة
الحمد لله الذي لا تنقضي عجائبه، ولا ينفد عطاؤه، ولا يخفى عليه شيء في السماوات ولا في الأرض. أما بعد:
أيها المتأمل الفطن، والعاقل البصير، ألم تنظر يوماً في هذا الكون البديع الذي تراه من حولك؟ ألا ترى أن كل ما فيه يدل على عظمة خالقٍ لا يعجزه شيء؟
إن عظمة الله ليست كلمات تُقال، ولا حروف تُخط على الورق، بل هي حقائق تُدركها العقول وتخشع لها القلوب. إنك إن تأملت عظمة الله أدركت مقام الإنسان، وتيقنت أنك أمام خالقٍ عليمٍ حكيم، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
فيا طالب الحكمة، أقبل على التفكر والتدبر، فإن في ذلك شفاءً للقلوب، وزيادةً في الإيمان. ولا يكن نظرك مقصوراً على ظاهر الأشياء، بل انظر إلى ما وراءها، حيث ترى عظمة البارئ واضحةً جلية.
عظمة الله في الكون
يا أيها الناظر إلى السماء في صفائها، ألم تتعجب كيف رفعت بلا عمدٍ يحملها؟ إنك إن تأملت السماء، التي لا تهوي على الأرض، والتي تمتد فوقنا كبساطٍ عظيم، أدركت أن وراء هذا الجمال نظاماً لا يعلمه إلا من خلقها.
وانظر إلى الأرض تحت قدميك، كيف جعلها الله مستقراً للناس، فيها من الجبال الرواسي ما يثبتها، ومن الأنهار الجارية ما يرويها، ومن الثمار المتنوعة ما يغني أهلها. أليس في ذلك آيةٌ على إبداع الخالق الذي جعلها مهادًا ومصنعًا للحياة؟
ثم تأمل الليل والنهار، كيف يتعاقبان بلا اختلال، كأنهما خادمان للزمان، يعملان بأمر رب العزة. الليل يستر بعتمته، والنهار يكشف بنوره، وكلٌ في فلك يسبحون. أليس ذلك نظاماً محكماً لا يأتيه خلل؟
أيها العاقل، إن في الكون آياتٍ لو أدركتها بفكرك، لرأيت أن كل شيء فيه ينطق بعظمة الله، فهل أنت من المتفكرين؟
عظمة الله في الطبيعة
أيها المتأمل في الطبيعة، أَلَمْ تَرَ كيف جعل الله البحار والمحيطات ممتدةً كأنّها كتاب مفتوح؟ هي آيةٌ تتجدد مع كل موجةٍ ترتفع أو تنخفض، ومع كل مخلوقٍ يسبح في أعماقها. ترى الماء يموج بريحٍ فتظنه يثور، فإذا به يخضع لأمر ربه ويعود إلى هدوئه. فيها من الأسماك واللآلئ، ومن الأعاجيب ما تقف أمامه العقول حائرة، فلا تملك إلا التسبيح.
وانظر إلى الجبال الراسيات، كيف جعلها الله أوتاداً تحفظ الأرض من أن تميد! هي ليست حجارةً عاديةً، بل هي شامخةٌ كأنّها ألسنةٌ تنطق بقدرة خالقها. ترى الثلوج تغطيها فتزيدها جمالاً، وترى الأنهار تنساب منها فتبعث الحياة فيمن حولها. أليس في ذلك دليلاً على عظمة من خلقها؟
ثم انظر إلى النبات حين ينبت من بذرةٍ ضئيلة، كيف يشق طريقه نحو النور، وكيف يمد جذوره في الأرض يطلب الغذاء! إنّك ترى الوردة تفوح برائحتها، وترى النخلة تعلو بجذعها، وكل ذلك دليلٌ على إبداع إلهٍ لا يعجزه شيء. والنمل والطيور والزواحف والحيتان، كلّها مخلوقات تدل على أن الخالق حكيمٌ في صنعه، عليمٌ بما يصلح مخلوقاته.
عظمة الله في خلق الإنسان
أيها القارئ، لو تأملت نفسك لأدركت أنك أعظم دليلٍ على عظمة الله. هل فكرت يوماً في مراحل خلقك؟ أَلَمْ يكُ الإنسان نطفةً في قرارٍ مكين، ثم صار علقةً، ثم مضغةً، ثم عظماً كساه الله لحماً؟ أليس هذا التدرج المذهل آيةً تدل على حكمة البارئ وقدرته؟
ثم انظر إلى العقل الذي وهبه الله للإنسان، كيف جعله مفتاحاً للعلم والمعرفة، وكيف سخره لفهم ما حوله. بالعقل استطاع الإنسان أن يبتكر ويعمر، لكنه في الوقت نفسه يقف عاجزاً أمام أسرار خلق الله التي لا تحيط بها العقول مهما بلغت.
وأما الجسد، فهو أعجوبةٌ لا يحيط بها الوصف. القلب ينبض بلا توقف، والدم يجري في عروقٍ دقيقة كأنها أنهارٌ في أرضٍ متشابكة، والعين ترى، والأذن تسمع، واللسان ينطق، وكل عضوٍ في مكانه يعمل بتناسقٍ عجيب. أليس هذا النظام المتكامل دليلاً على أن الخالق أحكم وأتقن صنعه؟
أيها الإنسان، إنك إذا تفكرت في نفسك وما حولك، رأيت أن كل شيء ينطق بعظمة الله، فهلَّا كنت من المتدبرين؟
آيات الله في السماء
أيها المتأمل في ملكوت السماوات، ألم ترفع رأسك ليلةً إلى السماء، فرأيت النجوم تزينها كأنها درر منثورة؟ هي كواكب تسير في أفلاكها، لا يصطدم بعضها ببعض، ولا تضل مسارها. تراها تضيء الليل للضائعين، وترشد السفن في عباب البحر، وكأنها جنود مسخرة بأمر ربها.
ثم تأمل حركة الشمس والقمر، كيف جعلهما الله آيتين تسيّران الزمان وتضبطان الأيام. الشمس تشرق كل يوم، فتبعث الحياة في الأرض، وتغيب لتفسح المجال للراحة. والقمر يتغير في كل ليلة، يبتدئ هلالاً ويكتمل بدراً ثم يتناقص. كل ذلك بنظام دقيق لا يختل، وكأنه ميزان محكم لا يزيد ولا ينقص.
أما السحاب، فهو رحمة الله المرسلة إلى عباده. تراه يحمل الماء فوق الأرض، كأنّه خزائن علوية تتنقل بين السماء والأرض. فإذا أراد الله الخير، أنزل منه المطر، فأحيا الأرض بعد موتها، وأطعم الناس والدواب. أليس في ذلك آية على عظمة الإله الذي يرزق بلا حساب؟
استشعار عظمة الله في العبادة
أيها السالك طريق الإيمان، اعلم أن العبادة ليست حركاتٍ بالجسد فقط، بل هي استشعارٌ لعظمة الله بالقلب أولاً. فإذا تفكرت في خلق الله، ازداد إيمانك، وأدركت أنك عبدٌ لرب عظيم لا يعجزه شيء.
انظر إلى صلاتك، كيف تخشع فيها إذا استحضرت عظمة من تقف بين يديه. إنك حين تضع جبهتك على الأرض، تذكّر نفسك أنك تتذلل للخالق الذي رفع السماء بلا عمد، وجعل الأرض قراراً. وحين تدعو الله، استشعر أنك تخاطب من بيده ملكوت كل شيء، فلا تيأس من رحمته ولا تتردد في طلب عطائه.
ثم اعلم أن التقوى واليقين هما جناحا الإيمان. فمن استشعر عظمة الله، راقب نفسه في كل قولٍ وفعل، وخشي أن يعصيه. ومن أيقن بقدرة الله، توكل عليه ولم يهن أو يضعف.
فيا أيها المؤمن، اجعل عبادتك وسيلةً لتقوية صلتك بخالقك، واستشعر عظمته في كل سجدةٍ ودعاء، فإنّ من أدرك عظمة الله، اطمأن قلبه وزاد يقينه.
أقوال العلماء والأنبياء عن عظمة الله
أيها المتفكر في عظمة الخالق، أَلَمْ تقرأ في كتاب الله، فتتدبر الآيات التي تفيض إعجازاً وتنطق بالعظمة؟ قال الله عز وجل: “إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ” [آل عمران: 190]. أليس في هذه الآية دعوة إلى التأمل في الكون بوصفه مرآةً تعكس عظمة الله؟
ثم تأمل حديث النبي صلى الله عليه وسلم، إذ قال: “لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً” [رواه الترمذي]. ألا ترى كيف يربط النبي بين التوكل على الله واستشعار عظمته؟ فالطير تطير بلا زادٍ، لكنها تأمن رزقها لأن خالقها لا ينسى.
أما العلماء والسلف، فقد كانت قلوبهم عامرةً بتعظيم الله. قال ابن القيم رحمه الله: “كلما ازدادت معرفة العبد بربه، ازداد حياؤه منه وخوفه له، وحبّه فيه، وتوكله عليه.” أليس هذا القول إشارةً إلى أن التفكر في عظمة الله يزيد الإيمان عمقاً؟ وقال الحسن البصري: “تفكر ساعة خير من قيام ليلة.” فتدبر، أيها اللبيب، كم للتفكر في عظمة الله من أثرٍ عظيم.
الخاتمة
أيها القارئ الكريم، بعد أن جلت بك هذه الكلمات في روائع عظمة الله، ألَا تراك أدركت أن التفكر في عظمة الله ليس ترفاً فكرياً، بل هو عبادة تُحيي القلب وتزكي النفس؟ إن استشعار عظمة الله يوقظ في الإنسان شعوراً بالرهبة والخشوع، ويدفعه إلى عبادة خالقه بصدقٍ وإخلاص.
إن التفكر في السماء وما فيها، والأرض وما تحتها، والنفس وما تُدركه، كل ذلك سبيلٌ لمعرفة الله وزيادة اليقين به. فإذا استشعرت عظمة الله، فإن عملك سيصدق قولك، وقلبك سيطمئن بذكر الله.
فيا من قرأت، لا تكن ممن يمرون على آيات الله وهم عنها معرضون، بل كن من المتفكرين المعتبرين. اجعل التفكر في عظمة الله زاداً لك في رحلتك إلى الآخرة، فإن من عرف عظمة ربه، كانت حياته لله، ومماته لله.
اترك تعليقاً