ثبات القلوب: أسباب الانقلاب على المنهج وعلاجها
يُصيب الكثير منا في رحلته مع الدين حالة من التذبذب، أو ما يُعرف بانقلاب القلوب، وهو أمرٌ يُقلق الكثيرين. فكيف نُثبت قلوبنا على الحق؟ وما هي أسباب هذا الانقلاب؟ وكيف نُعالجه؟ هذا ما سنُناقشه في هذا المقال.
الأدعية الثابتة: درعٌ من الانقلاب
قبل الخوض في التفاصيل، لنتذكر هذه الأدعية المباركة التي تُعتبر درعاً حقيقياً من تقلب القلوب:
- ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ﴾ [آل عمران:8]
- (يا مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قلبي على طَاعَتِكَ)
- (يا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قلبي على دِينِكَ)
- (اللهم إني أعوذ بك من الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ)
- (اللهم إني أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ اللهم إني أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ في ديني ودنياي وأهلي ومالي)
هذه الأدعية ليست مجرد كلمات، بل هي دعاءٌ من القلب إلى خالق القلوب، طلبٌ للثبات على الحق والهداية.
أمثلة على انقلاب القلوب: واقع مؤلم
للأسف، نشهد في واقعنا أمثلةً كثيرةً على انقلاب القلوب وتغير المنهج:
- دعاةٌ كانوا من أهل الخير والصلاح، انقلبوا إلى الردة أو الإلحاد.
- علماءٌ جمعوا حشوداً ضخمةً خلفهم، ثم تخلى بعضهم عن منهجهم.
- من استسهلوا إباحة المحرمات، بعد أن قضوا جزءاً من حياتهم في حراسة الفضيلة.
- من كانوا يُبهرون الناس بحسن قراءتهم للقرآن، فارقوا المحاريب.
- من تساهلوا في المعاملات المحرمة بسبب ضغوط اقتصادية.
- من خضعوا للضغوط السياسية، وحوّروا أحكام الشريعة.
هذه الأمثلة تُظهر هشاشة النفس البشرية وقدرتها على التغيير المفاجئ، مما يجعلنا نتساءل: ما هي أسباب هذا الانقلاب؟
أسباب الانقلاب على المنهج:
سنقسم أسباب الانقلاب على المنهج إلى قسمين: أسباب ذاتية وأسباب مجتمعية.
أسباب تعود لذات المنقلب:
-
مشارطة الله تعالى في دينه: التزام الشريعة لغاية دنيوية، كطلب منصب أو جاه، فإذا لم تتحقق الغاية، يتخلى عن الدين. مثال على ذلك قصة رويم البغدادي الذي كتم حب الدنيا طويلاً، ثم أظهره بعد أن ناله مال وجاه. كذلك من يجعل التزامه بالدين وسيلةً لعزّ الأمة، فإذا لم يتحقق ذلك، ينقلب على منهجه. يجب أن يكون الهدف الأسمى هو تحقيق العبودية لله تعالى، لا غير.
-
الجهل بسنة الله تعالى: استعجال تحقق وعد الله بالنصر والتمكين، وعدم الصبر على البلاء. يجب أن نُدرك أن سنن الله تعالى لا تتغير، وأن العاقبة للمتقين، مهما طال الزمن. مثال على ذلك، يأس بعض الناس من تحرير بيت المقدس، فالتجأوا للتطبيع مع اليهود. تاريخ الصليبيين يُظهر أن النصر يتحقق بالصبر والجهاد، حتى لو طال الزمن.
-
التعرض للفتن والابتلاء: كثير من الناس صمدوا أمام الفتن لسنوات، لكنهم انهاروا في النهاية. يجب أن نُدرك حدود طاقتنا، وأن لا نتعرض لما لا نطيقه من البلاء، وأن نلجأ للعلماء الربانيين لتوجيهنا. الأحاديث النبوية تحث على العزلة في زمن الفتن، والحفاظ على النفس من التردي.
-
عدم العناية بعلم الباطن والسلوك: إهمال تزكية النفس بالأعمال الصالحة، وضعف في مواجهة المنكر. علماء السلف كانوا يُولون اهتماماً كبيراً بتزكية النفس، وهذا ما يجب علينا أن نفعله. قوة الإيمان واليقين تُعزز الثبات على الحق.
-
تأصل فساد القلب بالشبهات أو الشهوات: استسلام العبد للشبهات دون مراجعتها، أو استسلامه للشهوات، مما يُؤدي إلى انحرافه عن منهجه. يجب أن نُحارب الشبهات بالعلم، والشهوات بالتقوى. فساد القلب يُؤدي إلى زَيْغِهِ.
-
الانفصام بين الظاهر والباطن: إقامة العبد على معصية خفية، ثم ييأس من رحمة الله، فيُظهر معصيته. يجب أن لا نستسلم ليأس الشيطان، وأن نُحافظ على الحياة الروحية، وتأنيب الضمير.
-
منافسة الأقران: الحسد على حظوظ الدنيا، والانحراف عن المنهج لتحقيق غاية دنيوية. يجب أن نُركز على تحقيق العبودية لله تعالى، لا على منافسة الآخرين.
- الاعتماد على أتباع ضعاف: ظن الشخص أن أتباعه سينصرونه، فإذا لم يحصل ذلك، ينقلب عليهم. يجب أن نعتمد على الله تعالى وحده، ولا ننتظر نصرة من البشر.
أسباب تتعلق بالمجتمع (مجتمع العلماء والدعاة):
-
صد الطاقات الواعدة: إهمال المواهب الصاعدة، مما يُؤدي إلى انحرافهم. يجب الاهتمام بالطاقات الشابة، وتوجيهها نحو الخير.
-
الانفصام بين العلم والعمل: رؤية الطالب لمخالفة في سلوك شيخه، مما يُؤدي إلى هجر المنهج. يجب التفريق بين العلم والسلوك، وأن لا نُحكم على المنهج بسلوك من ينتهجه.
-
ضعف الفقه في علاج خطأ من أخطأ: التعنيف والتقريع المفرط على المخطئ، مما يدفعه للكابر. يجب أن نُعامل المخطئين بحكمة، وأن نُركز على تصحيح الخطأ، لا على الشخص.
- اختيار أضعف ما عند الخصوم للرد عليه: تقديم ردود ضعيفة على شبهات الخصوم، مما يُؤدي إلى انحراف الأتباع. يجب أن نُقدم حججاً قوية ووافية للرد على الشبهات.
أسباب التثبيت على الحق:
-
قراءة القرآن بتدبر: الاقتداء بالثابتين على الحق، والحذر من الناكصين.
-
نصرة الدين: الجهاد في سبيل الله تعالى، بالأقوال والأفعال.
-
الدعاء بالثبات: طلب الثبات من الله تعالى، فهو مُقلب القلوب.
-
الاستعاذة بالله تعالى: الاستعاذة من الكفر والنفاق والانحراف.
-
فعل المأمورات واجتناب المحظورات: التقوى والعبادة.
-
قراءة سير السلف: الاقتداء بالثابتين على الحق.
-
تعاهد القلب: ملئه بمحبة الله تعالى ورسوله.
-
كراهية الكفر: استحضار عاقبة الكفر.
-
التواصي بالحق والصبر: النصيحة والتذكير.
-
كثرة ذكر الله تعالى: الذكر يُطمئن القلوب.
- لزوم التقوى: التقوى تُعين على معرفة الحق من الباطل.
ختاماً، ثبات القلب على الحق ليس أمراً سهلاً، بل يحتاج إلى جهادٍ دائمٍ، وصبرٍ طويلٍ، واعتمادٍ كاملٍ على الله تعالى. نسأل الله تعالى أن يُثبت قلوبنا على دينه، وأن يُعيننا على
اترك تعليقاً