في السنة العاشرة للهجرة، شهدت الأمة الإسلامية حدثًا فارقًا، حينما توجه النبي صلى الله عليه وسلم بصحبة جموع المسلمين من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج. كان هذا الحج بمثابة تتويج لجهود النبي صلى الله عليه وسلم في نشر رسالة الإسلام، وإتمامًا لنعمة الله على المسلمين.
خرج المسلمون متلهفين للاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل خطوة، ليشهدوا بأنفسهم شعائر الإسلام ومناسكه. وبعد أن أتم الله له فتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجًا، أذن النبي صلى الله عليه وسلم بالرحيل لأداء فريضة الحج.
رحلة إلى منى وخطبة الوداع الخالدة
بعد أن صلى النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد ذي الحليفة، امتطى ناقته القصواء، محاطًا بالمسلمين من كل جانب. صدحت حناجرهم بكلمة التوحيد: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك له".
بعد الطواف والسعي، توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى منى في اليوم الثامن من ذي الحجة، حيث صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر. ثم مكث قليلًا حتى طلعت الشمس، وأمر بضرب قبة من شعر في نمرة، ونزل بها حتى زالت الشمس. وعندئذ، أتى الوادي وخطب في الناس خطبة الوداع العظيمة، التي تعتبر وثيقة تاريخية وحجر الزاوية في التشريع الإسلامي.
أبرز مضامين خطبة الوداع
تضمنت خطبة الوداع جملًا قصيرة، لكنها تحمل معاني عظيمة، وتجسد جوهر الإسلام وقيمه السامية. ومن أبرز هذه المضامين:
-
حرمة الدماء والأموال والأعراض: أكد النبي صلى الله عليه وسلم على حرمة الدماء والأموال والأعراض، وجعلها كحرمة يوم عرفة في شهر ذي الحجة في مكة المكرمة. وهذا التشديد يهدف إلى تعظيم هذه الحقوق، وسد الذرائع أمام أي اعتداء عليها.
-
نبذ عادات الجاهلية: دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى نبذ كل عادات الجاهلية الذميمة، والتخلي عن كل ما يخالف قيم الإسلام وأخلاقه. وقد أبدلهم الله بالإسلام عقيدة وشريعة، فلا يقدَّم عليه أي شيء آخر.
- إسقاط الثأر: من عادات الجاهلية الثأر للدماء، وإثارة الفتن انتقامًا لها، وهو ما يغذي في النفوس الاختلاف والتفرق والشتات، فكان من عظيم ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أن أسقط كل هذه الثارات الجاهلية.
-
إبطال الربا: حرّم النبي صلى الله عليه وسلم الربا، الذي كان منتشرًا في الجاهلية، لما فيه من ظلم واستغلال للفقراء والمحتاجين. وإبطال الربا يعزز القرض الحسن، والرفق بالمحتاجين، والإنظار للمعسرين، وهي قيم مثالية يتميز بها نظام الإسلام في المعاملات المالية.
-
العدل والمساواة: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في العدل والمساواة، فبدأ بنفسه والأقربين في تطبيق أحكام الإسلام. فأول دم أسقطه النبي صلى الله عليه وسلم هو دم ابن عمه، وأول ربا أسقطه هو ربا عمه.
-
حقوق المرأة: أكد النبي صلى الله عليه وسلم على حقوق النساء، وأوصى بالنساء خيرًا، وهذا التأكيد يوجب مزيد احتياط في مراعاة حقوقهن.
-
حقوق الأزواج والزوجات: بين النبي صلى الله عليه وسلم حقوق الأزواج والزوجات، فالأسرة هي نواة المجتمع المسلم، ولا يتأسس المجتمع المسلم إلا من خلالها.
-
التمسك بكتاب الله وسنة نبيه: حث النبي صلى الله عليه وسلم على التمسك بكتاب الله وسنته، وأخبر أن الأمة لن تضل ما دامت متمسكة بهما.
- كمال الرسالة: أشهَد النبي صلى الله عليه وسلم الأمة على أنه قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة.
دروس مستفادة من خطبة الوداع
تعتبر خطبة الوداع وثيقة شاملة تتضمن العديد من الدروس والعبر، منها:
- ضرورة التمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
- حفظ حقوق المسلمين في دمائهم وأموالهم وأعراضهم.
- نبذ عادات الجاهلية والتخلي عن كل ما يخالف قيم الإسلام.
- الاجتهاد في الأخذ بالعدل وتجنب الظلم.
- التنزه عن مسالك الجشع واستغلال المحتاجين.
- حفظ حقوق النساء والتأكيد على حقوق الزوجين.
فيا لهذه الكلمات القليلة كم حوت من معانٍ عظيمة! فهي دعوة للتمسك بكتاب الله، على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع حفظ حقوق المسلم في دمه وماله وعرضه، ورفضه لما يخالف دينه من عادات الجاهلية، واجتهاد في الأخذ بالعدل، وتجنب الظلم، والتنزه عن مسالك الجشع واستغلال المحتاجين، مع حفظ حق النساء، والتأكيد على حقوق الزوجين اللذَين بهما تنعم الأسرة المسلمة، كل هذه المعاني العظيمة وغيرها قد جاءت في هذه الخطبة المهيبة التي سميت بخطبة الوداع، فيا له من وداع! فاللهم صلِّ عليه وسلم تسليماً كثيراً.
اترك تعليقاً