دانيال داي لويس: لعنة التقمص التي أسرت وأنهت مسيرة أسطورة التمثيل

دانيال داي لويس: لعنة التقمص التي أسرت وأنهت مسيرة أسطورة التمثيل

مقدمة: موهبة استثنائية أم تضحية بالنفس؟

دانيال داي لويس، اسم ارتبط بالكمال التمثيلي والتفاني المطلق في الأدوار. ممثل تخطى حدود التقليد ليؤسس مدرسة خاصة به في التقمص، لكن هذه الموهبة الفريدة حملت في طياتها ثمناً باهظاً، دفعته في النهاية إلى اعتزال التمثيل بعد مسيرة زاخرة بالإنجازات والمعاناة. فما هي قصة هذا الفنان الاستثنائي، وكيف تحول التقمص إلى لعنة تطارده؟

طفولة قاسية: الشرارة الأولى للتقمص

نشأ داي لويس في بيئة صعبة، حيث تعرض للتنمر بسبب أصوله الأيرلندية واليهودية. هذه التجربة المؤلمة دفعته إلى تطوير آلية دفاع نفسية تمثلت في الهروب من هويته الحقيقية والتقمص بشخصيات أخرى. لجأ إلى التمثيل كوسيلة للتخفي وإخفاء جذوره، متظاهراً بأنه إنجليزي وأتقن لكنتهم وحركاتهم بدقة مذهلة. هذه القدرة المبكرة على التقمص، التي نشأت من رحم المعاناة، كانت الشرارة التي أشعلت موهبته الاستثنائية، لكنها زرعت أيضاً بذور مشكلة نفسية عميقة سترافقه طوال حياته.

منهج متطرف: العيش الكامل للدور

لم يكتف داي لويس بحفظ النصوص والتمرن على الحركات، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير. طور منهجاً فريداً في التمثيل، يقوم على العيش الكامل داخل شخصية الدور لأشهر أو حتى سنوات. هذا النهج "المتطرف" يعني أن دانيال يختفي تماماً ويحل محله الشخص الذي يمثله، يتناول طعامه، ويرتدي ملابسه، ويتحدث بلكنته، ويتبنى عاداته وطقوسه اليومية. هذا الانغماس الكامل يجعله ينتج أداءات صادقة إلى درجة مذهلة، لكنه يدفع ثمناً شخصياً باهظاً مقابل هذا الكمال الفني.

"قدمي اليسرى": بداية الرحلة الشاقة

كان فيلم "قدمي اليسرى" (My Left Foot) عام 1989 نقطة تحول في مسيرة داي لويس. أدى دور كريستي براون، الكاتب والرسام الأيرلندي المصاب بشلل دماغي. لم يكن هذا الدور مجرد تحدٍ تمثيلي، بل تجربة إنسانية عميقة غيرت حياته إلى الأبد.

  • التحضير للدور: قضى داي لويس أشهراً في قراءة أعمال كريستي والتعرف على أصدقائه. والأهم من ذلك، أنه قرر عدم ترك الكرسي المتحرك طوال فترة التصوير، مما أجبر فريق العمل على التعامل معه كشخص معاق حقيقي.
  • التضحية الجسدية: تدرب لأشهر طويلة حتى يتمكن من القيام بكل شيء بقدمه اليسرى فقط، مما أدى إلى كسر ضلعين من أضلاعه.
  • الاكتشاف الإنساني: اكتشف داي لويس عمق المعاناة الإنسانية، وتوصل إلى أن ما يشعر به كريستي ليس الحزن أو اليأس، بل الغضب، غضب من الطريقة التي يُفهم بها ويُساء فهمه.

هذا الأداء المذهل جعله يفوز بأوسكار أفضل ممثل، لكنه احتاج لـ3 سنوات للتعافي من "شبح كريستي" الذي استمر في مطاردته.

"آخر الموهيكان": من الإعاقة إلى القوة

بعد سنوات من التعافي، عاد داي لويس بشخصية مختلفة تماماً في فيلم "آخر الموهيكان" (The Last of the Mohicans) عام 1992، حيث أدى دور هوكاي، المحارب من القرن الـ17.

  • التحول الجسدي: التزم الممثل مع مدرب لياقة بدنية 5 مرات في الأسبوع لمدة 6 أشهر ليصبح جسده مناسباً للدور.
  • الاندماج في الطبيعة: عاش شهراً كاملاً في غابات ولاية كارولاينا الشمالية مع بعض الخبراء ليتقن حياة السكان الأصليين.
  • إتقان المهارات القتالية: تعلم اصطياد الحيوانات وسلخها، وبناء الزوارق، وإطلاق النار، وتلقى تدريباً خاصاً على يد عقيد بالجيش الأميركي لتطوير مهاراته في الرماية والقتال بالأيدي.

بعد انتهاء التصوير، عانى من الهلوسة وأصبح يخاف من الأماكن المغلقة، واحتاج لشهور طويلة للتخلص من شبح المحارب الذي استمر في السيطرة عليه.

الأشباح تطارد: الثمن النفسي للتقمص

بعد انتهاء كل دور، يحتاج داي لويس لسنوات طويلة للتعافي من "شبح الشخصية" الذي يستمر في السيطرة عليه حتى بعد انتهاء التصوير. هذه الأشباح لا تتركه بسهولة، بل تطارده في أحلامه وفي حياته اليومية، مما يجعله يعيش في حالة من الصراع المستمر بين هويته الحقيقية والشخصيات التي يؤديها.

الاعتزال: نهاية الرحلة أم استراحة محارب؟

مرت سنوات على آخر أدوار داي لويس، والسؤال الذي يطرحه عشاق السينما في كل مكان: هل سيعود يوماً من اعتزاله؟ أم أن الثمن النفسي والجسدي للتقمص أصبح أكثر مما يستطيع تحمله؟ سواء عاد أم لا، سيبقى دانيال داي لويس أسطورة في عالم التمثيل، رمزاً للتفاني المطلق والقدرة الخارقة على التقمص، لكنه أيضاً تذكير بالثمن الباهظ الذي قد يدفعه الفنان مقابل الكمال الفني.

المصدر: موقع الجزيرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *