ذهول العصر: كيف نفقد المعنى في عصر وفرة المعلومات؟
في عالم يزدحم بالمعلومات والتقنيات، هل نعيش عصرًا من التنوير أم عصرًا من الذهول؟ هل نرى الأشياء بوضوح أم أننا غارقون في وهم المعرفة؟ هذا المقال يستكشف كيف يمكن لوفرة المعلومات أن تؤدي إلى فقدان المعنى، وكيف يمكننا استعادة البوصلة الداخلية من خلال الوحي والفطرة السليمة.
مشهد من حديقة: بداية الذهول
تخيّل طفلًا صغيرًا يجلس في حديقة غنّاء، محاطًا بجمال الطبيعة: أشجار باسقة، عصافير مرحة، وشمس دافئة. لكن الطفل لا يرى شيئًا من هذا. عيناه مثبتتان على شاشة صغيرة، غارقًا في لعبة ضوئية تستهلك انتباهه وتخطف منه الدهشة. هذا المشهد الصغير يلخص أزمة العصر: عالم يحيط بنا، لكننا لا نراه.
أزمة العصر: كثافة الصورة لا عمق الفكرة
هذا الطفل، بكل براءة، يجسد كيف يتم إعادة صبغ وعينا بلون المفاهيم الجديدة. نُربّى على كثافة الصورة لا عمق الفكرة، على دقة الأداء لا سكينة المعنى. نُقدم للإنسان دور مرسوم لا ذات تبحث عن غايتها. هذا التوجه نحو السطحية والظاهر يضعف قدرتنا على رؤية العالم بعين القلب، وبميزان الفطرة، وبنور الوحي.
الحضارة الغربية: أدوات بلا قيم
نحن نعيش في حضارة غربية تُحسن الصياغة في مواطن، لكنها تفسد المعنى. حضارة تجيد نحت القيم في قوالب مشرقة، لكنها تزرع خلف الواجهات الملساء مفاهيم جوفاء. حضارة ترسخ الفردانية، وتؤسطر الشهوة، وتقنن الانفصال عن السماء تحت شعارات الحقوق والحريات. هذه الحضارة تسوق الإنسان كمرجع نهائي، وتنزع القداسة عن الوحي، وتلقي في روع الجماهير أن ما يسمى بـ "الرأي العام" هو المعيار الأعلى للحق والباطل.
الرأي العام: أكبر كذبة في التاريخ؟
كما قال توماس كارليل: "الرأي العام أكبر كذبة في تاريخ العالم." هذا "الرأي" ليس ابن الحقيقة، بل هو نتاج هندسة إعلامية، وصدى لما يُراد للجماهير أن تراه، لا ما ينبغي أن تبصره.
الإنسان المنفصل عن الوحي: نسخة مشوهة من الفضيلة
الحقيقة التي لا تخطئها البصائر: أن الإنسان، حين ينفصل عن وحي السماء، لا يصنع إلا نسخة مشوهة من الفضيلة، مهما زُينت بألفاظ القانون، ومهما صيغت في أرقى قوالب الحداثة. الحضارة الغربية اليوم تراكم أدوات، لا قيمًا؛ تنتج عجلة، لا معنى؛ وتقدم الإنسان كآلة تُغذى بالرغبة، ويُقاس بالمنفعة، ويُساق بلا مبدأ. كلما ارتفعت الأبراج، تسافل الإنسان؛ وكلما انفتحت أبواب الاستهلاك، انغلق باب السكينة.
المعيار المفقود: الذهول الحقيقي
الذهول الحقيقي ليس في أن يرى الإنسان كل شيء، بل في أن يفقد المعيار الذي يبصر به كل شيء. يقول ابن القيم رحمه الله: "فالإنسان كما وصفه به خالقه – ظلوم جهول، فلا ينبغي أن يجعل المعيار على ما يضره وينفعه ميله وحبه ونفرته وبغضه، بل المعيار على ذلك ما اختاره الله له بأمره ونهيه." (الفوائد- 133).
قيمة الإنسان: منظومة ثابتة للمعاني
تتحدد قيمة الإنسان في المنظومة التي تمنحه إطارًا ثابتًا لمعاني الخير والشر، للواجب والموقف، للسؤال والغاية. وحين تضعف هذه المنظومة، يتفلت الوعي وتذوب الهوية.
الانتماء: سياج حفظ القيمة
أشار ألفين توفلر إلى أن المحور الأخطر في أي معيار إنساني هو الانتماء لجماعة تستحق الاحترام، من الأسرة إلى الجماعة الدينية. هاتان الحاضنتان هما السياج الأعمق لحفظ القيمة وضبط الانحراف. ولكن حين يصبح الفرد هو المشرّع لنفسه، وذوقه هو الحكم الأعلى، ينفلت كل شيء، ويتحول الإنسان إلى مستهلك يشكل ذاته بما يتناسب مع السوق لا مع الفطرة.
الوثنية الجديدة: تعدد القيم
وصف طه عبد الرحمن هذه الحالة بأنها وثنية جديدة، ليست تعددًا في الآلهة فحسب، بل تعددًا في القيم، ينتقي منها ما يوافق المصلحة اللحظية، بلا أصل مرجعي ناظم. ووصف جاك رانسيير الإنسان الحديث بـ "المستهلك النرجسي"، الذي يصوغ أفكاره كما ينتقي مشترياته: متعة، تنويع، قابلية للتبديل.
خصخصة الباطن: إعادة تشكيل الإنسان
في هذا الجو، لم يعد الدين وحيًا هاديًا، بل خيارًا ضمن قائمة اختيارات مؤقتة. هذه السيولة لا تقف عند حدود الفكر، بل تمتد إلى الجسد، إلى الهوية البيولوجية. كما يقول مايكل هارت: نحن نعيش زمن "خصخصة الباطن"، حيث يُعاد تشكيل الإنسان على مستوى الذكورة والأنوثة، والعقيدة والانتماء، ليُقدَّم منتَجًا في خدمة السوق لا مرآةً للخلق الإلهي. ويُهمَّش الإنسان المستقيم لأنه لا يُدرّ ربحًا، ولا يُنتج سوقًا.
الأسئلة الكبرى المفقودة: من أنا؟
في ظل هذا الانقلاب الشامل، تذوب الأسئلة الكبرى: من أنا؟ لماذا وُلدت؟ إلى أين المصير؟ ويُستبدل بها سؤال آخر أكثر توحشًا: ماذا أستهلك؟ وماذا أُجرّب؟ وكما قال لوك فيري: "تُختزل الأسئلة العميقة في إجابات قصيرة"، لا تُشفي الروح، ولا تبني إنسانًا.
جوهر الأزمة: الإعراض عن الله
مهما أُلبست هذه الحضارة من حُلَل البيان، ومهما توسّلت بالمؤسسات والمنظمات والمواثيق، فإن جوهرها يظل مأزومًا؛ لأنها ببساطة قامت على الإعراض، وانطلقت من منطلق "الإنسان مركز الوجود"، لا "الله رب العالمين".
اليقظة القرآنية: الحل
نحن أمام موجة مفاهيمية لا يكفي فيها الرد الجزئي ولا الاجتهاد التجميلي، بل لا بد من يقظة قرآنية، تنقض الباطن لا الظاهر، وتعيد الوحي إلى موضعه الصحيح: مصدرًا أعلى للهداية، ومُحرّكًا أول لبناء الوعي والإنسان.
الحضارة الغربية: مريضة بفقدان المرجعية المعصومة
أوقن أن الحضارة الغربية مريضة، وأنها لا تعاني من نقص في المعلومة، بل من فقدان المرجعية المعصومة. تعرف كيف تحكم على الجسد، لكنها عاجزة عن فهم بكاء الروح، تشرّع لكل شهوة، لكنها تتلعثم أمام معنى "الطهارة"، وتستخف بقيمة "الحياء"، وتتخبط في تعريف "الحق" ولا تميز بين الذكر والأنثى.
التدين المنكمش: نافذة جانبية لا منظار
ليست الأزمة في انعدام الإيمان، بل في انكماشه؛ حين يُختزل الدين إلى طقوس تؤدى، لا تصورات تُبنى، ويُحشر في زوايا الشعائر بدل أن يكون هو النور الذي يُبصر به العالم. صار التدين عند كثيرين نافذة جانبية يفتحونها في أوقات الفراغ الروحي، لا منظارًا يؤسسون به وعيهم، ويهتدون به في مدارات الحياة.
الانفصال بين التدين والوعي: أخطر صور الذهول
هذا الانفصال بين التدين والوعي هو من أخطر صور الذهول؛ لأن المسلم يصلي بين يدي ربه، ثم يسلم عقله وسلوكه لتصورات لا تنتمي إلى الوحي، فيعيش انشطارًا داخليًا مرهقًا، يقف خاشعًا في المحراب، ثم ينحني للعُرف والسوق في ساحة الاختيارات.
القرآن: أداة استنهاض كبرى للوعي
وهكذا يعمل القرآن؛ لا بوصفه كتاب تلاوة فحسب، بل بوصفه أداة استنهاض كبرى للوعي، وركيزة مفاهيمية تعيد ترتيب تصورات الوجود من
اترك تعليقاً