سنة الإمهال والإهلاك: كيف يباغت الله الظالمين؟**


مقدمة: سنة الله في أخذ الظالمين بغتة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وبعد:

إن من سنن الله الكونية الثابتة "سنة الأخذ بغتة"، وهي تجلي لقدرته سبحانه في تغيير الأحوال وتبديل الأوضاع بشكل مفاجئ وسريع، قد لا يتوقعه المرء في لحظة غفلة. فكم من أحداث تقع في لمح البصر، وتتداعى الأمور إلى مسارات لم تكن في الحسبان.

الأخذ بغتة في القرآن الكريم: آية الأنعام نموذجًا

تتجلى هذه السنة الإلهية في آيات عديدة من القرآن الكريم، ومن أبرزها قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 44-45].

هذه الآية الكريمة تصور لنا مشهدًا مهيبًا لأخذ الله الظالمين المستكبرين، الذين أعرضوا عن دينه وظلموا عباده. فبعد أن فتح الله عليهم أبواب الرزق والنعيم، وأغرقهم في الملذات والشهوات، أخذهم بغتة، أي أهلكهم فجأة، وهم في غفلة ساهون.

معنى "أخذناهم بغتة": الإهلاك المفاجئ

كلمة "بغتة" تعني الفجأة، وهي تدل على أن العذاب نزل بهم فجأة، ليكون أشد عليهم وقعًا وأفظع هولًا. وهذا الأخذ لا هوادة فيه، ولا رجعة عنه، بل هو إهلاك واستئصال.

"فإذا هم مبلسون": التحول المفاجئ من الغطرسة إلى اليأس

تأتي كلمة "مبلسون" فجائية لتدل على التحول المفاجئ الذي طرأ على حالهم. فبعد الغطرسة والجبروت والطغيان، أصبحوا متحسرين غاية الحسرة، آيسين من كل خير، واجمين. والإبلاس في اللغة له ثلاثة معان متقاربة: الحزن، والحسرة، واليأس. وهي جميعًا تجتمع في حال هؤلاء الظالمين.

"فقطع دابر القوم": الاستئصال الكامل

وقوله تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ} معطوفة على جملة {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً}، أي فأخذناهم أخذ الاستئصال، فلم يبق فيهم أحدًا.

"الذين ظلموا": الوصف الذي استحقوا به العقوبة

في قوله تعالى: {الَّذِينَ ظَلَمُوا} إشارة إلى الوصف الذي استحقوا به العقوبة، والظلم هنا يشمل الشرك، والكفر بالله أعظم الظلم. والكفر يستتبع مظالم عديدة، فهم ظالمون بكفرهم بالله، وظالمون لعباد الله بصدّهم عن سبيل الله، وهضم حقوقهم.

"والحمد لله رب العالمين": اعتبارات ثلاثة

جملة {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} تحمل اعتبارات ثلاثة:

  1. تلقين للمؤمنين: أن يحمدوا الله على نصره رسله وأوليائه وإهلاك الظالمين، لأن ذلك النصر نعمة بإزالة فساد كان في الأرض.
  2. كناية عن النعمة: أن يكون الحمد لله كناية عن كون ما ذُكر قبله نعمة من نعم الله تعالى. وفيه تعليم للمؤمنين كيف يحمدونه سبحانه عند نزول النعم التي من أجلها هلاك الظلمة الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
  3. إنشاء حمد من الله: أن يكون إنشاء حمد الله تعالى من قِبَله سبحانه مستعملًا في التعجيب من معاملة الله تعالى إياهم، وتدريجهم في درجات الإمهال إلى أن حق عليهم العذاب.

دروس وعبر من سنة الأخذ بغتة

كم من أمم مضت فيها هذه السنة من سنن الله، وهي لا تدرك أن الله يستدرجها وفق هذه السنة! وكم من أناس يستبعدون وقوعها حين يتعاظمهم الرخاء والسلطان! ويخدعهم إملاء الله لهذه الأمم، وهي لا تعبد الله، وهي تتمرَّد على سلطانه، وهي تَعِيث في الأرض فسادًا، وهي تظلم الناس بعد اعتدائها على سلطان الله، فيأتيهم أمر الله -تعالى- فيأخذهم بغتة ويقطع دابرهم، والحمد لله ربّ العالمين.

المصادر:

  • تفسير القرطبي
  • فتح القدير للشوكاني
  • التحرير والتنوير لابن عاشور

المصدر: موقع طريق الإسلام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *