سوريا بعد الأسد: كيف تتحقق العدالة الانتقالية ومحاسبة المجرمين السابقين؟

سوريا بعد الأسد: كيف تتحقق العدالة الانتقالية ومحاسبة المجرمين السابقين؟

سوريا بعد الأسد: كيف تتحقق العدالة الانتقالية ومحاسبة المجرمين السابقين؟

مع سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024، تواجه سوريا منعطفًا تاريخيًا حاسمًا. بعد أربعة عشر عامًا من الصراع الدامي الذي بدأ بحراك شعبي سلمي في مارس 2011، تطالب سوريا اليوم بإرساء أسس جديدة للعدالة والسلم الأهلي. العدالة الانتقالية تبرز كنهج أساسي للانتقال من مرحلة النزاع إلى الاستقرار وبناء الدولة.

دور الشبكة السورية لحقوق الإنسان في توثيق الانتهاكات

لعبت الشبكة السورية لحقوق الإنسان دورًا محوريًا في توثيق الانتهاكات بشكل يومي منذ عام 2011. قامت الشبكة ببناء قاعدة بيانات شاملة تضم ملايين الحوادث، وأصدرت أكثر من 1800 تقرير وبيان، بما في ذلك تقارير يومية وشهرية تغطي سنوات النزاع. هذه التوثيقات تشكل أساسًا متينًا يمكن الاستناد إليه في أي مسار للعدالة الانتقالية في سوريا.

حجم المأساة السورية يتطلب عدالة شاملة

وفقًا لتوثيقات الشبكة، خلّف النزاع السوري حصيلة مروعة من الانتهاكات:

  • مقتل ما لا يقل عن 234 ألف مدني.
  • اختفاء قسري لأكثر من 160 ألف شخص.
  • وفاة ما لا يقل عن 45 ألف شخص تحت التعذيب.
  • تشريد نحو 13.8 مليون سوري.

هذه الإحصاءات المروعة تبرز الحاجة الملحة لتبني مسار شامل للعدالة الانتقالية يعالج هذا الإرث الثقيل من الانتهاكات، ويضمن عدم تكرارها، ويمهد الطريق نحو بناء سوريا جديدة قائمة على أسس العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية.

رؤية الشبكة السورية لحقوق الإنسان للعدالة الانتقالية

الشبكة السورية لحقوق الإنسان قدمت رؤية شاملة للعدالة الانتقالية في سوريا، تسعى لمعالجة جذور المشكلات التي عانت منها البلاد عبر عقود، وتحقيق تحوّل نوعي في بنية الدولة السورية ومؤسساتها.

تقترح الشبكة إنشاء هيئة وطنية للعدالة الانتقالية تشكل المحور الرئيسي لتنفيذ برامج العدالة الانتقالية، وتتسم بالاستقلالية والشمولية والشفافية.

كما تؤكد الرؤية على ضرورة تطبيق الأركان الأربعة للعدالة الانتقالية بشكل متزامن ومتكامل:

  1. المحاسبة الجنائية: لتكريس سيادة القانون وتقويض سياسة الإفلات من العقاب.
  2. الحقيقة والمصالحة: لتوثيق الانتهاكات، وتحديد مصير المفقودين والمختفين قسريًا، وتعزيز المصالحة المجتمعية.
  3. جبر الضرر والتعويض: لتقديم التعويض المادي للضحايا وذويهم، وتنفيذ برامج جبر الضرر المعنوي وتخليد الذكرى.
  4. إصلاح المؤسسات: خاصة القضائية والأمنية والعسكرية، لضمان عدم تكرار الانتهاكات واستعادة ثقة المواطنين بمؤسسات الدولة.

وتولي الرؤية اهتمامًا خاصًا بالمشاركة المجتمعية الواسعة في مسار العدالة الانتقالية، مع التركيز على دور الضحايا ومنظمات المجتمع المدني، وأهمية التعاون الدولي كداعم أساسي للعملية، مع الحفاظ على الملكية الوطنية للمسار بأكمله.

الأركان الأربعة للعدالة الانتقالية بالتفصيل

1. المحاسبة الجنائية: تكريس سيادة القانون

المحاسبة الجنائية تشكل حجر الزاوية في عملية العدالة الانتقالية، وتلعب دورًا محوريًا في تكريس سيادة القانون وتقويض سياسة الإفلات من العقاب التي سادت خلال حكم الأسد.

  • تحديد الأولويات: التركيز على القيادات العليا المتورطة في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
  • إطار قانوني خاص: صياغة قوانين جنائية جديدة تتوافق مع المعايير الدولية، بما في ذلك:
    • إدراج تعريفات واضحة للجرائم الدولية.
    • إلغاء القوانين التي توفر الحصانة للمسؤولين.
    • تطوير تشريعات تتيح محاكمة الجرائم بأثر رجعي.
  • لجان تقصي الحقائق: لجمع الأدلة الجنائية اللازمة للمحاسبة، من خلال الوصول إلى المؤسسات الأمنية والعسكرية والمدنية.
  • محاكم خاصة مختلطة: تشكيل محاكم مؤقتة تجمع بين العناصر الوطنية والدولية، متخصصة بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
  • الآليات الدولية: ملاحقة المسؤولين الفارين خارج البلاد من خلال طلب التعاون الدولي، والاستفادة من مبدأ الولاية القضائية العالمية، واستخدام الاتفاقيات الثنائية والإقليمية لتسليم المطلوبين.

2. الحقيقة والمصالحة: بناء الثقة المجتمعية

كشف الحقيقة ركن أساسي في مسار العدالة الانتقالية، يساهم في معالجة إرث الانتهاكات وبناء الثقة المجتمعية، مما يمهّد الطريق نحو المصالحة الوطنية.

  • توثيق الانتهاكات: جمع شهادات من جميع الأطراف، وتحديد المسؤولين سواء كانوا أفرادًا أو مؤسسات.
  • الكشف عن مصير المفقودين: تشكيل لجان متخصصة تضم خبراء في التحقيقات الجنائية، الطب الشرعي، وعلماء الجينات والأنثروبولوجيا.
  • التعامل مع المقابر الجماعية: حمايتها باعتبارها مسارح جريمة، وإجراء البحث الميداني المنهجي وفق بروتوكولات دولية معتمدة.
  • لجان الحقيقة والمصالحة: الإشراف على تشكيل مجالس عرفية ولجان مصالحة في المحافظات السورية، تضم وجهاء المجتمع وشخصيات قيادية ورجال دين.

3. جبر الضرر والتعويض: تضميد الجراح والاعتراف بالمعاناة

برامج جبر الضرر والتعويض عنصر حيوي في مسار العدالة الانتقالية السورية، لمعالجة الأضرار الهائلة التي خلفها النزاع.

  • التعويض المادي: منح مادية مباشرة، خدمات تفضيلية، إعادة حقوق الملكية، تمويل مشاريع الإسكان، دعم إعادة التأهيل الاقتصادي، برامج تعويضات جماعية.
  • جبر الضرر المعنوي وتخليد الذكرى: إعادة تأهيل الضحايا نفسيًا واجتماعيًا، تقديم الدعم القانوني، إنشاء نصب تذكارية، تخصيص أيام تذكارية وطنية، إنشاء متاحف ومراكز توثيق.
  • لجان متخصصة للتعويض وجبر الضرر: تضم ممثلين حكوميين وقضاة وحقوقيين، وممثلين عن المجتمع المدني والضحايا وذويهم، ومستشارين دوليين.

4. إصلاح المؤسسات: استعادة ثقة المواطنين

إصلاح المؤسسات، خاصة القضائية والأمنية والعسكرية، يهدف إلى ضمان عدم تكرار الانتهاكات واستعادة ثقة المواطنين بمؤسسات الدولة. (سيتم تناول هذا الجانب بالتفصيل في مقال لاحق).

التحديات والآفاق المستقبلية

مسار العدالة الانتقالية في سوريا يواجه تحديات جمة، بما في ذلك:

  • نقص الموارد المالية.
  • التفاوت في توزيع التعويضات.
  • التعقيدات القانونية.
  • الخلافات المجتمعية.

إلا أن الإرادة الصلبة للشعب السوري، والتعاون الدولي، والرؤية الشاملة للعدالة الانتقالية، يمكن أن تساهم في تجاوز هذه التحديات وبناء سوريا جديدة قائمة على أسس العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية.

ملاحظة: الآراء الواردة في هذا المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة (المصدر الأصلي). هذا المقال هو تحليل وتفسير للمعلومات الواردة في المصدر.

المصدر: موقع الجزيرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *