عفة النفس: طريقك نحو رضا الله والسعادة
تُعرف العفة لغويًا بأنها الكف عما لا يحل ولا يجمّل، كأن يُعفو المرء عن المحارم والأطماع الدنيئة. أما اصطلاحًا، فتُعرف بأنها ضبط النفس عن الشهوات، والاكتفاء بما يُقِيمُ أودَ الجسد ويحفظ صحته، واجتناب السرف في جميع الملذات، وقصد الاعتدال. يُعدّ الأمر بالعفة من أهم ما جاء في القرآن الكريم، حيث يقول سبحانه وتعالى: "ولْيَستَعْفِفِ الذين لا يَجِدُونَ نِكاحًا حتى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ" (النور: 33)، وكذلك قوله تعالى: "يَحسَبُهُمُ الجاهِلُ أغنياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ" (البقرة: 273).
مكارم الأخلاق وفضائل عفة النفس:
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أروع مثال للعفة، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن الحسن بن علي أخذ تمرة من تمر الصدقة ووضعها في فمه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كِخْ كِخْ، ارم بها؛ أما علمت أنّا لا نأكل الصدقة". (رواه مسلم). كما قال صلى الله عليه وسلم: "ثلاثٌ حقٌ على الله عونُهم: المُجاهِدُ في سبيل الله، والمُكاتَبُ الذي يُريدُ الأداء، والنَّاكِحُ الذي يُريدُ العفاف". (حسن، رواه الترمذي). يُلاحظ من هذه الأحاديث أن العفاف من الأمور الشاقة التي تحتاج إلى عون الله، خاصةً أنه قمع للشهوة الجبلية. وقد قال أيوب السختياني رحمه الله: "لا ينبل الرجل حتى تكون فيه خصلتان: العفة عما في أيدي الناس، والتجاوز عما يكون منهم".
إذن، ما هي فضائل عفة النفس؟
-
محبة الله: يُحب الله أهل العفة والتعفف، كما روى البيهقي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "إن الله يُحِبُّ… الحييَّ العفيفَ المُتَعَفِّفَ". فالعفة والزهد في الدنيا يُورثان محبة الله، كما أن التعفف عما في أيدي الناس يُورث محبة الناس، كما جاء في حديث آخر: "ازهد في الدنيا يُحِبَّكَ الله، وازهد فيما في أيدي الناس يُحِبُّوكَ". (صحيح، رواه ابن ماجه).
-
الفوز بفضل الله: أهل العفة هم الفائزون بفضل الله في الدنيا والآخرة، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "أربعٌ إذا كنَّ فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصِدقُ حديث، وحُسنُ خُلق، وعِفَّةٌ في طُعمَة". (صحيح، رواه أحمد والطبراني).
-
الفلاح والنجاح: أهل العفة هم أهل الفلاح والنجاح، وأهل الغنى الحقيقي، كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: "قد أفلح من أسلم ورُزِقَ كفافًا، وقَنَّعَهُ اللهُ بما آتاه". (رواه مسلم). وقال أيضًا: "ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس". (رواه البخاري).
-
الجهاد في سبيل الله: السعي لإعفاف النفس وكفاية الأهل يُعدّ جهادًا في سبيل الله، كما روى عن كعب بن عجرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن كان خرج يسعى على ولده صِغارًا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يُعِفُّها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياءً ومُفاخرةً فهو في سبيل الشيطان". (صحيح، رواه الطبراني).
- صدقةٌ جارية: النفقة لإعفاف النفس والأهل صدقة من الصدقات، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "من أنفق على نفسه نفقةً يستعفُّ بها فهي له صدقة، ومن أنفق على امرأته وولده وأهل بيته فهي له صدقة". (حسن، رواه الطبراني).
أنواع العفة وأهميتها:
تتعدد أنواع العفة، ومن أهمها:
-
كف الفرج عن الحرام: أعظم صور العفاف عن الحرام هي قصة يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز، حيث هيأت له أسباب الفاحشة وأزالت الموانع، إلا أنه امتنع قائلاً: "معاذ الله إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ" (يوسف: 23). ومن تحلى بعفة يوسف، يُبشّر بأن يكون في ظل عرش الله يوم القيامة، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "سبعةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ يومَ القيامةِ في ظِلِّهِ يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّهُ… ورجلٌ دَعَتْهُ امرأةٌ ذاتُ مَنصِبٍ وجَمالٍ إلى نفسها؛ قال: إني أَخافُ الله…". (رواه البخاري ومسلم). ولكن، يجب التنبيه على أن التعفف عن الحرام ليس عفةً إلا بشرط ألا يكون انتظارًا لأكثر منه، أو لعدم موافقته، أو لجمود الشهوة، أو لخوف من عاقبته، أو لمنعه، أو لجهله به.
-
كف النفس عن التشوّف لأموال الناس: نهى الله تعالى عن تمني ما فضّل به بعض عباده، قائلاً: "ولا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ" (النساء: 32). وقد امتدح الفقراء المتعففين عن أموال الناس الذين لا يُظهرون حاجتهم ولا يستجديون عطاء من أحد، كما جاء في الآية الكريمة: "لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا في سَبيلِ اللهِ لا يَسْتَطيعُونَ ضَرْبًا في الأَرْضِ يَحسَبُهُمُ الجاهِلُ أَغنياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا" (البقرة: 273). فالمُتَعَفِّف لا يلح في المسألة، ولا يُكلّف الناس ما لا يحتاجون إليه. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس، فترُدُّهُ اللُقمَةُ واللُقمَتانِ، والتمْرَةُ والتمْرَتانِ"، فقالوا: فما المسكين يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يجد غنى يُغنيه، ولا يُفْطَنُ له فيُتَصَدَّقُ عليه، ولا يسأل الناس شيئًا". (رواه مسلم).
- كف الجوارح عن الآثام: تتم العفة بضبط اليد واللسان والسمع والبصر. فمن عُدِمَ عِفَّةَ اللسان وقع في كبائر كالسخريّة والغيبة والهمز والنميمة، ومن عُدِمَها في البصر مدَّ بصره إلى المحرمات، ومن عُدِمَها في السمع أصغى لسماع القبائح. وعِماد عِفّةِ الجوارح كلها ألا يُطلقها صاحبها إلا فيما يُسوّغُهُ العقلُ والشَّرعُ، دون الشهوة والهوى. وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الأنصار بقوله: "الأنصارُ أَعِفَّةٌ صُبُرٌ". (صحيح، رواه ابن حبان).
ختامًا، إنَّ السعي نحو عفة النفس طريقٌ مُمهدٌ نحو رضا الله والسعادة في الدنيا والآخرة. فليكن شعارنا دائماً "الاستقامة
اترك تعليقاً