فضل أيام العشر من ذي الحجة: دليل شامل مع الأدلة الشرعية
الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهدِه الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، ولا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له.
أهمية العشر الأوائل من ذي الحجة
يا أيها الناس، اتقوا الله تعالى وشَمِّروا لطلب الخيرات في أوقاتها، واستقبلوا أعظم أيام الدنيا بما يرضي ربكم الجليل. فما بقي على دخولها إلا أيام معدودة. وقد كان السلف يعظمون العشر الأوائل من ذي الحجة، كما رواه المروزي. ويرجع سبب تعظيمهم لها لما خصها الله به من فضائل عظيمة، سنتعرف عليها فيما يلي:
1. قسم الله تعالى بها:
قال تعالى: ﴿وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ [الفجر: 2]. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العشر عشر الأضحى) رواه أحمد، وقال الزيلعي: (لا بأس برجاله)، وذكر ابن جرير إجماع أهل التفسير على أنها عشر الأضحى.
2. إتمام النعمة على موسى عليه السلام:
قال تعالى: ﴿وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ﴾ [الأعراف: 142]. قال مجاهد: (عشر ذي الحجة) رواه ابن جرير.
3. أفضل أيام الدنيا:
قال تعالى: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾ [الحج: 28]. قال ابن عباس: (أيام العشر) رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم. وقال صلى الله عليه وسلم: (أفضل أيام الدنيا أيام العشر). رواه البزار وحسنه المنذري. كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن أعظم الأيام عند الله تبارك وتعالى يوم النحر ثم يوم القرّ). رواه أبو داود وحسنه البيهقي. ويوم القرّ هو الحادي عشر، سمي بذلك لأن الحجاج يقرون فيه بمِنى.
كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه من العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهِن من التحميد والتكبير والتهليل). رواه البيهقي في الشعب وصححه البوصيري. وكان عمر رضي الله عنه يُكبّر في قُبّته بمنى فيسمعه أهل المسجد، فيكبّرون، ويكبّر أهل الأسواق حتى ترتجّ منى تكبيراً. رواه البخاري. والتكبير أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال، قال تعالى: (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا). قال القرطبي: (أي: عظّمه عظمة تامة، ويقال: أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال: الله أكبر، أي: صفْه بأنه أكبر من كل شيء). انتهى.
والتكبير قرين التهليل في مواضع عديدة، وقد تميّزت عشر ذي الحجة والسفر إلى الحج والعمرة بمواضع كثيرة شرع فيها التكبير، كالتكبير ثلاثًا عند الاستواء على الدابة ونحوها (أخرجه مسلم)، والتكبير ثلاثًا إذا علا الحاج أو المعتمر مرتفعًا (متفق عليه)، والتكبير قبل الإهلال بالحج أو العمرة (البخاري)، والتكبير في الطواف عند استلام الحجر الأسود أو محاذاته (البخاري)، والتكبير عند الصفا والمروة (مسلم)، والتكبير في نواحي الكعبة (البخاري)، والتكبير يوم عرفة (متفق عليه)، والتكبير بمزدلفة عند المشعر الحرام (أخرجه مسلم)، والتكبير يوم النحر (أحمد وحسنه الألباني)، والتكبير في عشر ذي الحجة وفي أيام التشريق (البيهقي في الشعب وصححه البوصيري)، والتكبير في صلاة وخطبة العيد (الترمذي وحسنه)، والتكبير عند رمي الجمرات (مسلم)، والتكبير عند ذبح الهدي (متفق عليه)، والتكبير عند الرجوع من الحج أو العمرة (متفق عليه).
قال ابن القيم: (والأفضل في أيام عشر ذي الحجة الإكثار من التعبد، لا سيما التكبير والتهليل والتحميد، فهو أفضل من الجهاد غير المتعين). انتهى. وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يُكبّران، ويكبّر الناس بتكبيرهما، وكان عمر رضي الله عنه يُكبّر في قُبّته بمنى، فيسمعه أهل المسجد فيكبّرون ويكبّر أهل الأسواق حتى ترتجّ منى تكبيراً، وكان ابن عمر يُكبّر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات وعلى فراشه وفي فسطاطه ومجلسه وممشاه تلك الأيام جميعًا، وكانت ميمونة تُكبّر يوم النحر. رواه البخاري.
قال ابن رجب: (روى المروزي عن ميمون بن مهران قال: أدركت الناس وإنهم ليُكبّرون في العشر، حتى كنت أُشبّهه بالأمواج من كثرتها، ويقول: إن الناس قد نقصوا في تركهم التكبير). انتهى.
4. العمل الصالح فيها أحب إلى الله وأعظم أجرًا:
قال صلى الله عليه وسلم: («ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام العشر»، فقالوا: يا رسول الله: ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء»). رواه الترمذي وصححه. وقال صلى الله عليه وسلم: («ما العمل في أيام أفضل منها في هذه؟» قالوا: ولا الجهاد؟ قال: «ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء»). رواه البخاري.
المعنى كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (استيعاب عشر ذي الحجة بالعبادة ليلًا ونهارًا أفضل من جهاد لم يذهب فيه نفسه وماله). انتهى.
وقال صلى الله عليه وسلم: («ما من عمل أزكى عند الله عز وجل ولا أعظم أجرًا من خير يعملُه في عشر الأضحى»، قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء»، قال: وكان سعيد بن جبير إذا دخل أيام العشر اجتهد اجتهادًا شديدًا حتى ما يكاد يقدر عليه). رواه الدارمي وحسنه الألباني.
5. ليلة المزدلفة (المشعر الحرام):
قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: 198]. وعن بلال بن رباح (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له غداة جمع: «يا بلال أسكت الناس»، أو «أنصت الناس»، ثم قال: «إن الله تطوّل عليكم في جمعكم هذا، فوهب مسيئكم لمحسنكم، وأعطى محسنكم ما سأل، ادفعوا باسم الله»). رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
6. قسم الله باليوم التاسع منها:
قال تعالى: ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ [البروج: 3]. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن المشهد يوم عرفة). رواه الطبراني في الكبير، وقال ابن كثير: (إسناده لا بأس به).
7. استحباب صيام التاسع من ذي الحجة:
اتفق الفقهاء على استحباب صيام تسع ذي الحجة، لما رواه هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة). رواه أبو داود وصححه البيهقي، ورجّح أحمد أن النبي صلى
اترك تعليقاً