فن النكتة: بلاغة التواصل، السخرية، والتأثير الاجتماعي
تُعدّ النكتة أكثر من مجرد وسيلة للتسلية والضحك؛ فهي أداة لغوية ذكية تتجاوز حدود الفكاهة البسيطة لتصل إلى أبعاد حجاجية وإقناعية عميقة. تُستخدم النكتة للتعبير عن الرأي، ونقد الواقع، بل وحتى للتأثير على المجتمعات. في هذا المقال، سنستكشف عالم النكتة من منظور بلاغي، ونحلل دورها في التواصل الاجتماعي والسياسي.
النكتة كأسلوب بلاغي: بين السخرية والمفارقة
تتداخل النكتة مع مفاهيم أخرى مثل السخرية، والمفارقة، والهجاء، لكنها تتميز بقدرتها على إثارة الضحك من خلال استخدام لغة ذكية ومبتكرة. وقد حظيت هذه الأداة اللغوية بدراساتٍ أكاديميةٍ متعددة، منها: "المفارقة في القص العربي المعاصر" لسيزا قاسم، و"المفارقة" لنبيلة إبراهيم، و"في الأدب الإسباني؛ السخريات في روايات بابيستير" لعبدالفتاح عوض، و"بلاغة السخرية الأدبية" لمحمد العمري، و"المفارقة القرآنية" لمحمد العبد. تُبرز هذه الدراسات أهمية النكتة كأداةٍ لغويةٍ ذات أبعادٍ بلاغيةٍ عميقة.
أبعاد النكتة المتعددة: من الفكاهة إلى السياسة
تتنوع وظائف النكتة وتأثيراتها بحسب السياق. فمن الممكن أن تكون:
- وسيلة ترفيهية بحتة: هدفها الأساسي هو إضحاك الجمهور وإمتاعه، كما هو الحال في العروض الكوميدية والمسارح.
- أداة سياسية ذات تأثير قوي: تُستخدم من قِبَل الحاكم لإلهاء الشعب عن القضايا الأساسية، أو لتحقيق مصالحه عبر التمهيد لها بشكل غير مباشر، أو لتفريغ الطاقات الاجتماعية. أما المحكومون فيستخدمونها للمراوغة، أو لإبداء الرأي دون خوف من العقاب، أو للهروب من واقع مؤلم. في هذا السياق، تُعتبر النكتة آلية دفاعية، كما وصفها فرويد، وآلية للتعبير عن المكبوتات، كما أشار ابن خلدون الذي ربط كثرة النكات بانتشار الفقر والمعاناة. ووصفها هنري برجسون بأنها "محاولة قهر القهر، وهتاف الصامتين".
أدوات النكتة ونجاحها: المفاجأة والمفارقة
يكمن نجاح النكتة في عنصرين أساسيين:
- المفاجأة: حيث ينتظر السامع مسارًا معينًا للحديث، لكن المتحدث ينحرف عنه بشكل مفاجئ، مستخدمًا الكلمات بطريقة غير متوقعة تُثير الضحك.
- المفارقة: تتجلّى هذه المفارقة في التناقض بين ما يُظهره المتحدث من مظهر خارجي، وبين مضمون كلامه. أو من خلال مخالفة السياق، مثل قول "أحسنت" للمسيء، أو تغيير المعنى في نهاية الجملة.
النكتة كمرآة للمجتمع: دراسة سوسيولوجية ونفسية
تُعتبر النكات نافذةً على الحالة النفسية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية للمجتمع الذي تُنتج فيه. فمن خلال تحليل النكات الشائعة، يمكننا فهم القيم السائدة، والتحديات التي تواجه المجتمع، والآليات التي يستخدمها أفراده للتعبير عن أنفسهم.
خاتمة: فن النكتة بين البلاغة والخديعة
على الرغم من قدرتها على إضحاكنا وإمتاعنا، إلا أن النكتة قد تُستخدم أحيانًا كأداةٍ للخداع، لتمرير أفكار معينة، أو لتزييف الحقائق، أو لتحقير عظيم، أو تعظيم حقير. لذلك، يُعتبر "فن النكتة" موضوعًا مهمًا وخطيرًا يستحق الدراسة من جوانب نفسية واجتماعية وأدبية متعددة.
[1] نبيل راغب: الأدب الساخر، ص19.
[2] أحمد الحوفي: الفكاهة في الأدب، 2 /93.
اترك تعليقاً