لغز وفاة الفاتح: هل مات مسمومًا أم قضاء وقدر؟

لغز وفاة الفاتح: هل مات مسمومًا أم قضاء وقدر؟

مقدمة: السلطان الفاتح.. إمبراطور الفتوحات ونهاية مفاجئة

السلطان محمد الفاتح، ليس مجرد فاتح القسطنطينية ومؤسس الإمبراطورية العثمانية الحديثة، بل شخصية محورية أثارت حياته وإنجازاته، وخاصة وفاته، جدلاً واسعًا بين المؤرخين. فبينما وصل الفاتح إلى ذروة مجده بتوسيع نفوذ دولته في الأناضول والبلقان، ووصوله إلى مشارف إيطاليا، رحل عن عالمنا عن عمر يناهز 49 عامًا، تاركًا وراءه تساؤلات لم تجد إجابات شافية حتى يومنا هذا. هل كانت وفاته نتيجة طبيعية لأمراض الشيخوخة المبكرة، أم أن هناك مؤامرة دُبرت للإطاحة به؟ هذا ما سنحاول استكشافه في هذا المقال.

صعود نجم الفاتح: من وريث للعرش إلى فاتح القسطنطينية

في عام 1451، توفي السلطان مراد الثاني، تاركًا العرش لابنه الشاب محمد الثاني، الذي لم يتجاوز العشرين من عمره. ورث محمد الثاني دولة قوية، لكنها كانت تواجه تحديات كبيرة. فمن جهة، كانت الإمبراطورية البيزنطية المتهالكة لا تزال تشكل تهديدًا رمزيًا، ومن جهة أخرى، كانت القوى الأوروبية تراقب عن كثب صعود الدولة العثمانية.

لم يتردد السلطان الشاب في إثبات جدارته، فبعد سنوات قليلة من توليه الحكم، قاد حملة تاريخية لفتح القسطنطينية، منهيًا بذلك قرونًا من الصراع بين المسلمين والبيزنطيين. هذا الفتح لم يكن مجرد انتصار عسكري، بل كان نقطة تحول في تاريخ العالم، حيث فتح الباب أمام العثمانيين للسيطرة على طرق التجارة بين الشرق والغرب، وتوسيع نفوذهم في أوروبا.

التوسع العثماني السريع: فتوحات الفاتح في البلقان وإيطاليا

بعد فتح القسطنطينية، انطلق السلطان محمد الفاتح في سلسلة من الفتوحات السريعة، التي شملت مساحات واسعة من البلقان، امتدت إلى اليونان وصربيا والمجر، وحتى الأراضي الإيطالية. ففي غضون سنوات قليلة، أصبحت الدولة العثمانية قوة عظمى لا يستهان بها، وباتت تهدد قلب أوروبا.

في السنتين الأخيرتين من حياته، تمكنت القوات العثمانية من النزول على سواحل الجنوب الإيطالي، وكانت على وشك الانطلاق نحو روما، لولا أن يد المنون اختطفت السلطان على نحو مفاجئ وهو بين جنوده.

الظروف الغامضة لوفاة الفاتح: بداية الشكوك والتساؤلات

توفي السلطان الفاتح في مايو 1481، بينما كان يستعد لحملة عسكرية جديدة في الأناضول. وفاته المفاجئة، أثارت الشكوك والتساؤلات حول ملابساتها، خاصة في ظل الشائعات التي انتشرت حول احتمال تسميمه.

الأمراض التي عانى منها الفاتح

في أواخر أيامه، عانى السلطان الفاتح من عدة أمراض، بما في ذلك الروماتيزم والنقرس. هذه الأمراض قد تكون ساهمت في تدهور حالته الصحية، ولكنها لا تفسر الوفاة المفاجئة.

روايات المؤرخين: بين التسميم والموت الطبيعي

  • فرضية التسميم: تركزت الشكوك حول طبيبه الخاص يعقوب باشا، اليهودي ذي الأصل الإيطالي، الذي اعتنق الإسلام لاحقًا. اتُهم يعقوب باشا بأنه كان عميلًا للإيطاليين، وأنه دس السم للسلطان.
  • فرضية الموت الطبيعي: يرى بعض المؤرخين أن وفاة السلطان كانت نتيجة طبيعية لتدهور حالته الصحية، بسبب الأمراض التي كان يعاني منها. ويشيرون إلى أن كبار المؤرخين العثمانيين لم يذكروا صراحة فرضية الاغتيال.

السيناريوهات المحتملة: مؤامرة في البلاط أم قضاء وقدر؟

الصراع على السلطة: دافع محتمل للاغتيال

تشير بعض الروايات التاريخية إلى وجود صراع خفي داخل البلاط العثماني قبيل وفاة السلطان الفاتح. كان هناك تنافس بين الصدر الأعظم قراماني محمد باشا والطبيب يعقوب باشا، الذي كان يحظى بثقة السلطان ومكانة بارزة. هذا الصراع على السلطة قد يكون دافعًا محتملًا لاغتيال السلطان.

دور يعقوب باشا: بين الثقة والاتهام

يعقوب باشا، الطبيب المقرب من السلطان، كان شخصية مثيرة للجدل. فبينما كان يحظى بثقة السلطان الكاملة، اتُهم بأنه كان عميلًا للإيطاليين، وأنه دس السم للسلطان.

رواية ثالثة: الدور الإيطالي المحتمل

تذهب بعض الدراسات التاريخية إلى أن يعقوب باشا كان عميلًا للإيطاليين، الذين كانوا في تلك الفترة هدفًا لحملات عسكرية عثمانية مكثفة. وتهدف هذه الفرضية إلى أن الإيطاليين ربما يكونوا قد دبروا مؤامرة لاغتيال السلطان، وإجهاض مشروعه التوسعي في قلب أوروبا.

آراء المؤرخين المعاصرين: هل من دليل قاطع؟

  • المؤرخ يلماز أوزتونا: يرى أن السلطان محمد الفاتح كان يطمح لأن يصبح "إمبراطورًا لروما الموحّدة"، وأن مشروع غزو إيطاليا لم يكن مجرد توسع عسكري، بل خطوة لتحقيق وحدة رمزية للعالم الروماني.
  • المؤرخ عاشق باشا زاده: تبنى رأي أن يعقوب باشا دس السم للسلطان، وأعرب عن غضبه من تدخل "كل يهودي وضيع في شؤون الدولة والسلطان".
  • المؤرخ عالي: دافع عن يعقوب باشا، مشيرًا إلى أن التنافس بينه وبين الصدر الأعظم هو ما أدى إلى اضطراب في العلاجات الطبية المقدمة للسلطان.
  • المؤرخ أحمد آق قوندوز: يؤكد أن استمرار يعقوب باشا في منصبه خلال عهد السلطان بايزيد الثاني يُعد دليلا قويا على عدم صحة رواية تسميم الفاتح.
  • المؤرخ إلبير أورتايلي: يرجح فرضية التسميم، مشيرًا إلى أن يعقوب باشا استغل معرفته الدقيقة بالحالة الصحية للفاتح ليقوم بتصفيته سرًا.

خاتمة: لغز لم يُحل بعد

تبقى وفاة السلطان محمد الفاتح لغزًا لم يُحل بعد. فبينما تشير بعض الأدلة إلى احتمال وجود مؤامرة، لا يوجد دليل قاطع يؤكد ذلك. وتبقى الحقيقة غائبة، إلى أن يكشف البحث العلمي عن أدلة قاطعة تحسم ما خفي من وقائعها.

المصدر: موقع الجزيرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *