رواية "نيران وادي عيزر" لمحمد ساري: رحلة في عمق الذاكرة الجزائرية
تثير الروايات التي تمزج بين الواقع والخيال، السيرة الذاتية والتاريخ، نقاشًا دائمًا حول تصنيفها. ولكن في رواية "نيران وادي عيزر" للكاتب الجزائري محمد ساري، الصادرة عن دار العين للنشر عام 2022، يتضح الأمر منذ البداية: هي "رواية سيرة/قصة حقيقية". لكن السؤال الذي يطرح نفسه قبل الغوص في صفحاتها هو: هل هي سيرة ذاتية للكاتب أم سيرة غيرية لشخص آخر؟
مزيج فريد من السير الذاتية والغيرية: قصة ثلاثة أجيال في وادي عيزر
مع التقدم في قراءة الرواية، يتضح المقصود بعبارة "رواية سيرة". يجمع العمل بين السيرة الذاتية لمحمد ساري نفسه، وسيرتين غيريتين لوالديه. اللافت أن الرواية تنتهي تقريبًا بإعلان استقلال الجزائر عام 1962، بينما كان الكاتب لا يزال في طفولته. هذا يكشف أن الأحداث تدور في فترة زمنية سابقة لولادة محمد ساري، ليصبح الكاتب بطل القصة وراويًا يعتمد على شهادات من عايشوا تلك الفترة، وخاصة الأم والأب، من منظورين مختلفين.
عتبات النص: الحرب المكانية والإهداء المؤثر
العنوان نفسه يضعنا أمام عتبة النص الأولى: الحرب المكانية. "وادي عيزر" يمثل المكان الثابت، بينما "نيران" بصيغة الجمع، ترمز إلى عنصر متحرك وقابل للتأويل، مما يخلق حالة من الترقب والتساؤلات حول طبيعة الأحداث. الغلاف، الذي يتوسطه خارطة وصورة للكاتب في مراهقته، يعزز هذا الانطباع.
العتبة الثانية هي الإهداء، الذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بكون الرواية سيرة لحياة الكاتب ووالديه، وبصورة أوسع، سيرة وادي عيزر في مرحلة حاسمة من تاريخ الجزائر: من ثورة التحرير إلى الجهاد المسلح، النضال، الاعتقالات، العمليات الفدائية والاغتيالات، وصولًا إلى الاستقلال.
يهدي ساري روايته إلى والديه: الأب الذي شارك في تحرير الجزائر، والأم التي خاضت نضالًا من نوع آخر، حيث كانت الأم والأب في غياب الزوج، سواء في الحرب أو في المعتقل. كما يشمل الإهداء كل سكان نواحي مدن عيزر وتيتاموسي وريفاي، الذين رووا الحكايات للكاتب ليتمكن من تشكيل هذه الرواية.
تداخل التاريخ والذاكرة: سرد روائي يوثق النضال الجزائري
تتدامج في الرواية التأريخ المكتوب، الذي نعرفه عن تلك الحقبة الصعبة التي أدت إلى الاستقلال (الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضي)، مع التأريخ الروائي المسرود عن ألسنة من عايشوا تلك الفترة، بالاعتماد على الذاكرة الشفهية. يتدفق السرد بين تخوم التاريخ والخيال الممتزج بالواقع، ليحضر محمد ساري كمؤرخ يوثق الأحداث، وحكاء يصف المكان والشخوص والانفعالات البشرية والمشاعر المتضادة على مدى أكثر من 350 صفحة و4 أجيال، مستخدمًا خطابًا سياسيًا شعبويًا ذكيًا، ليس خطاب المنابر والبدل، بل خطاب البسطاء، الفلاحين الذين لم يذهبوا إلى المدرسة، ولكنهم رضعوا حب الوطن من ثدي حياة عافروا فيها من أجل الاستقلال.
تقنية تعدد الرواة: أصوات مختلفة تحكي قصة واحدة
لم يعتمد الكاتب تقنية ضمير المتكلم، أو السارد الأوحد، المتعارف عليها في روايات السير، بل اختار تقنية تعدد الرواة، أي الذات الساردة التي تختلف باختلاف الشخوص. على مدى الرواية، يظهر 4 رواة: الأب، الأم، الابن، وابن العم، بالإضافة إلى الحوارات التي رافقت الرواية والمحكية عن لسان أصحابها.
السرد كان استذكاريًا، يتراوح بين الحوارات (بين شخصين أو أكثر)، المونولوجات الداخلية (خاصة في فصول الابن)، ومونولوجات حوارية (سرد الأب والأم لابنهما)، لنكون أمام نص يزخر بالتنقل الرشيق بين القاصين، بلغة كانت رشاقة انتقالها بين مستوى لآخر لا تقل جمالًا عن تعدد الرواة.
قضايا مجتمعية وإنسانية: أبعاد تتجاوز أزمة الاستعمار
لم تناقش الرواية أزمة الاستعمار الفرنسي للجزائر فقط، وإن كانت هذه الثيمة هي لبنة العمل الأساسية، بل تطرقت أيضًا إلى مواضيع شتى، مثل دور المرأة في المجتمع الجزائري (الأم المناضلة في المنزل بغياب الأب، المسعفة في ساحات الحرب)، وأهمية التعليم في بناء الجيل (التعليم نوع من الجهاد حتى وإن كان المجاهد في السجن). كما ناقشت الرواية الفروقات بين أهل الريف والمدينة، والتغييرات الديمغرافية التي تقع على المدن بسبب الحرب التي تجبر أبناء الريف على الهجرة إليها (مدينة شرشال الجزائرية أنموذجًا، والتي يصفها الكاتب بالمدينة "الكوزموبولتين"، مشبهًا هجرة القبائل إلى المدينة بنوع مختلف من الاستعمار).
لم تغب شرائح المجتمع المتعددة عن الرواية، والتي بدورها أضفت طابعًا خاصًا للعمل، حيث يكتشف القارئ من خلالها الوضع المأزوم في تلك الفترة. نتعرف إلى الشامبيط والهيوف والفلاقة والفلاح والمثقف والأمي والمجاهد الخائن والمسجون والإمام؛ والجيل الأول والثاني والثالث والرابع لعائلة البطل.
المكان كشاهد على الأحداث: وادي عيزر والجزائر في قلب السرد
لعب عنصر المكان دورًا مهمًا في الرواية، ليس فقط على صعيد الوصف والاهتمام بدقائق تفاصيله (سواء كان مكانًا خارجيًا كوادي عيزر وبركة العروس، أو داخليًا كالسجن والمنازل الفقيرة)، ولكن أيضًا على صعيد الحدث. نلاحظ كيف أثر المكان على نجاح الكثير من عمليات المجاهدين، فبيئة الجزائر كانت كريمة معهم، مانحة إياهم الكثير من الكهوف والأشجار للاختباء من عين الفرنسي. كما تسرد الرواية بدقة وعورة الأرض هناك، ما يصعب انتقالهم من مكان لآخر، ناهيك عن الوصف الأخاذ لبيئة الجزائر من أنهر ووديان وبساتين وحقول ومزارع على مد البصر.
"نيران وادي عيزر": شهادة حب وعرفان
إن رواية "نيران وادي عيزر" عمل مهم، استطاع الكاتب من خلاله توجيه رسالة محبة وعرفان لوالديه ولجميع من قدموا التضحيات في سبيل استقلال الأرض. استطاع ساري من خلاله التغلب على نمطية السير الروائية التي تتحول كثيرًا إلى توثيق جامد يؤرخ الحدث زمانيًا ومكانيًا على حساب الداخل الإنساني.
اترك تعليقاً