لستُ أنسى يومًا كنتُ فيه جالسًا عند نافذتي، وقد غشيني من الكآبة ما غشي، كأنّي أسير في وادٍ ليس له نهاية، أو كأنّي عابرٌ بحرًا لا ساحل له. ولما كنتُ أراقب الناس من نافذتي، كالناظر في كتاب لا يفهم كلماته، رأيتُ طفلًا على الرصيف، قد جلس مستندًا إلى حائط كأنّه ينوء بحمل أثقل من جسده.
فقلتُ في نفسي: “ما لي أراك، يا بنيّ، كالنخلة الباسقة التي أُهملت؟ لعلي إن دنوتُ منك انكشف لي ما خفي.” فقمتُ من مجلسي، ومشيتُ نحوه، حتى إذا اقتربتُ ألقيتُ عليه السلام. فقال: “وعليكم السلام، يا عمي.” فقلت: “ما تصنع هاهنا، وقد ألقت الشمس بحرّها عليك؟”
فقال: “أبيع علب المناديل، أرجو بها رزقًا يسيرًا نعين به أنفسنا على ما ابتلينا.”
فقلت: “وما شأنك؟ وأين والدك؟”
فأجاب: “قد مات والدي منذ سنة، ولم يبق لنا إلا الله، وأمي تخيط الثياب للناس، وأنا أبيع ما أقدر عليه.”
فوقع كلامه في نفسي موقعًا عجيبًا، كأنّه سهم أصاب القلب، أو كأنّه ماء ألقى على وجهٍ عطشان. فنظرتُ فيما معي من المال، فلم أجد إلا دينارات قليلة كنتُ أعدّها لحاجةٍ أظنّها مُلحة. فأعطيتُه المال كله، وقلت: “خذ هذا يا بني، عسى أن يفتح الله به بابًا لا يُغلق.”
فنظر إليّ وقال: “لا يا عمي، أمي أوصتني ألا آخذ إلا حقّي. فإن كنتَ تريد، فاشترِ مني علبة واحدة.”
فقلت: “وما يمنعني أن أشتري منك كل العلب؟”
فقال ببراءة: “ولكن إن اشتريتها كلها، فعليك أن تستخدمها كلها، وإلا فسد البيع!”
فضحكتُ ضحكًا كأنّي لم أضحك قبل ذلك قط، وأخذتُ العلب، وعدتُ إلى بيتي وأنا أفكر في الطفل وفي أمه، وفي حالهم.
فلما كان من الغد، خرجتُ إلى السوق واشتريتُ ما استطعتُ من الطعام والثياب. ثم ذهبتُ أبحث عن الطفل حتى وجدته في موضعه. فقلتُ له: “أرني أين بيتك، فإنّي أريد أن أزور والدتك.”
فدنا مني وقال: “وما شأنك بوالدتي؟”
فقلت: “إني أحبّ أن أطمئن عليكم.”
فذهب معي حتى بلغنا بيتًا صغيرًا كأنّه بقايا دارٍ عظيمة قديمة. فلما طرقت الباب خرجت امرأة وقور، يعلو وجهها التعب كأنّه حبر كتب به الزمن قصته. فحيّيتها وقدّمتُ ما جئتُ به، فقالت: “يا هذا، ما يدعوك إلى فعل هذا المعروف؟ ونحن قومٌ لا نطلب فضلًا.”
فقلت: “إنّما أفعل ذلك شكورًا لله على ما رزقني، وإنّما أنا وسيلة، وأنتِ صاحبة الفضل إذ أنرتِ لي دربًا كدتُ أنساه.”
ومنذ ذلك اليوم، جعلتُ لهم من وقتي نصيبًا، ومن رزقي قسطًا، حتى شعرتُ أن السعادة ليست في جمع المال، بل في تفريقه حيث يكون نفعه أعظم.
وهكذا، أيها القارئ، علّمتني الصدقة أن اليد التي تعطي لا تخسر، وأنّ القلب الذي يُحسن يظل عامرًا مهما ضاقت الدنيا.
اترك تعليقاً