مقدمة: جنون الشهرة أم فاقة التقدير؟
في عصرنا الرقمي، لم يعد غريباً أن نرى مراهقاً يسعى للشهرة عبر محتوى قد يُنظر إليه على أنه "هابط". لكن، ما يثير الاستغراب حقاً هو انخراط شخصيات مرموقة – أطباء، أساتذة جامعيون، وغيرهم من ذوي المكانة الاجتماعية الرفيعة – في نفس هذه الممارسات، بل وأحياناً بمستوى أسوأ. فما الذي يدفع هؤلاء، الذين قضوا سنوات في بناء سمعة طيبة وتحقيق إنجازات مهمة، إلى التخلي عن قيمتهم وتقديم محتوى تافه على وسائل التواصل الاجتماعي؟ هل هو مجرد جنون الشهرة، أم أن هناك عوامل أعمق تدفعهم إلى ذلك؟
سيكولوجية الفقد: الحاجة إلى التقدير في العصر الرقمي
لا شك أن الحاجة إلى التقدير والاهتمام هي حاجة إنسانية أساسية. دراسات علم النفس تؤكد هذه الحقيقة، وتشير إلى أننا جميعاً نسعى إلى الشعور بالتقدير والإيجابية من الآخرين. في الماضي، كان هذا التقدير يأتي من خلال الإنجازات المهنية، العلاقات الاجتماعية، أو المساهمات في المجتمع. أما اليوم، فقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي منصة رئيسية للحصول على هذا التقدير، حتى وإن كان ذلك من خلال محتوى سطحي أو تافه.
التنازل عن القيمة: لماذا يختار المثقفون التفاهة؟
السؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا يختار الطبيب أو الأستاذ الجامعي، الذي يحظى بالفعل بتقدير اجتماعي ورضا ذاتي، أن ينخرط في محتوى تافه؟ لماذا يفضل مزاحمة الفاقدين للجدوى في ممارساتهم؟ الجواب قد يكمن في عدة عوامل:
- إغراء الشهرة السريعة: وسائل التواصل الاجتماعي تعد بمنصة سهلة وسريعة للشهرة. يمكن لأي شخص، بغض النظر عن خلفيته أو مؤهلاته، أن يصبح مشهوراً بين ليلة وضحاها من خلال محتوى بسيط أو مثير للجدل. هذا الإغراء قد يكون قوياً جداً، حتى بالنسبة للأشخاص الذين حققوا بالفعل نجاحاً في مجالاتهم.
- الخوف من التخلف: في عالم يتغير بسرعة، قد يشعر البعض بالخوف من التخلف عن الركب. الانخراط في وسائل التواصل الاجتماعي، حتى من خلال محتوى تافه، قد يُنظر إليه على أنه وسيلة للبقاء على صلة بالعصر ومواكبة التطورات.
- الفراغ العاطفي أو الوجودي: قد يعاني البعض، على الرغم من نجاحهم الظاهري، من فراغ عاطفي أو وجودي. في هذه الحالة، قد يبحثون عن التقدير والاهتمام في أماكن غير تقليدية، مثل وسائل التواصل الاجتماعي، حتى وإن كان ذلك من خلال محتوى تافه.
- تأثير ثقافة الاستهلاك: في مجتمع يركز بشكل كبير على الاستهلاك والترفيه، قد يشعر البعض بالضغط لتقديم محتوى يتماشى مع هذه الثقافة. قد يعتقدون أن المحتوى الجاد أو الفكري لن يحظى بنفس القدر من الاهتمام، وبالتالي يختارون تقديم محتوى تافه لجذب المزيد من المتابعين.
الثمن الباهظ: خسارة الذات في عالم السوشيال ميديا
إن التنازل عن القيمة وتقديم محتوى تافه على وسائل التواصل الاجتماعي قد يكون له ثمن باهظ. قد يفقد الشخص احترامه لذاته، ويخسر تقدير الآخرين له. قد يصبح أسيراً لآراء الآخرين، ويعيش حياة غير أصيلة. والأخطر من ذلك، قد يضيع نفسه في زحمة التفاهة، وينسى من هو وما هي قيمه.
الخلاصة: نحو استخدام واعٍ لوسائل التواصل الاجتماعي
في النهاية، يجب أن نتذكر أن وسائل التواصل الاجتماعي هي مجرد أداة. يمكننا استخدامها لنشر المعرفة، وبناء العلاقات، وتحقيق أهدافنا. ولكن يجب علينا أيضاً أن نكون واعين لكيفية استخدامنا لهذه الأداة، وأن نتجنب الوقوع في فخ التفاهة والشهرة الزائفة. يجب أن نحافظ على قيمنا وأخلاقنا، وأن نسعى إلى تقديم محتوى مفيد وهادف، بدلاً من التنازل عن قيمتنا من أجل الحصول على بعض الإعجابات والمتابعين. فالحياة أكبر وأهم من مجرد عدد قليل من النقرات على الشاشة.
اترك تعليقاً