في الذنوب والمعاصي وعواقبها
يا صاح، سلّمك الله من سوء الخلق ومضار الهوى، وتأمل معي شأن الذنوب والمعاصي، فإنها وإن تخفت بلبوس اللذة، فإن تحتها شوكة تؤلم، وسماً يقتل، وكأنها النار لا يدنو منها المرء إلا احترق، ولا يقاربها إلا تورّط.
وإن العلماء وأرباب البصائر اتفقوا، بعد طول تأمل وتدقيق، على أن المعاصي ليست ضرباً من العبث، ولا شأناً عارضاً يمرّ مرور الكرام، بل هي ضربات متواليات على قلوب أصحابها، تدمي أفئدتهم، وتترك في عقولهم من الغشاوة ما يعمي، وفي أجسادهم من الضعف ما يهدّ، وفي دنياهم من الهمّ ما ينغص، وفي آخرتهم من العذاب ما يخلّد.
فانظر، أصلحك الله، إلى حال ذلك الرجل الذي تاقت نفسه إلى الحرام، فمدّ يده إليه وأطلق بصره فيه، كيف أنه لم يزل يجرّ بعد ذلك من آثار ذنبه ما يكدر صفوه، فإن لم يكن بالهمّ والغمّ، فبالخوف من الفضيحة، وإن لم يكن بذلك، فبالوحشة التي حلت بينه وبين الله، وربما أهلكه الأمر بمرض لا يبرأ منه، أو بفقر لا يغنيه عنه غنى الدنيا بأسرها.
وهل رأيت يوماً عاصياً مطمئناً؟ أو مذنباً هادئ البال؟ بل إنك لتجدهم، وإن زينت لهم أنفسهم ما هم فيه، يتقلبون بين الهمّ والحيرة، حتى ليخال المرء أنهم في دنياهم أشبه بأصحاب النار، يصرخون ولا يسمعهم أحد، ويفرّون ولا يجدون مهرباً.
وقد قرأت في كتب السلف أن المعاصي تقسي القلب، كما أن الماء إذا طال مكثه أفسد العشب، فلا يُثمر الإيمان في القلب الملوث، ولا تجد فيه لذة المناجاة ولا نور الطاعة.
وما ظنك برجل عاقبه الله بذنب أذنبه، فسلبه النعمة وأحلّ عليه النقمة؟ أما قرأت قوله تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ؟ فأيّ خسارة أعظم من أن يُسلَب الإنسان نعمة الهداية، فيتخبط في الظلمات ولا يدري إلى أين يسير؟
فاحذر، أدام الله عليك نعمه، من مغبة المعاصي، فإنها تهدم الدين، وتخسف العقل، وتضعف البدن، وتضيّق الدنيا، وتحرم الآخرة. وإياك والاغترار بطول الأمل، فإن الله يمهل ولا يهمل، وكم من عاصٍ ظنّ أنه بمنأى عن العقوبة، فأدركته في مأمنه، وأخذته في غفلته.
فلنتب إلى الله توبة صادقة، قبل أن تداهمنا لحظات الندم حيث لا ينفع، ولنستبدل بالسيئات الحسنات، فإن الله كريم يحب التائبين، ويقبل المعذّبين النادمين، ويبدل الذنوب إلى طاعات، والآثام إلى قربات.
فلعلّ العاقل يتعظ، ويعلم أن للذنوب أثراً وخطراً، وأن تركها هو السلامة، والسلامة لا يعدلها شيء.
الذنوب والمعاصي: علل القلوب
ومن عجيب أمر الذنوب أنها ليست كغيرها من الأعمال السيئة التي تنحصر آثارها في دائرة الفعل نفسه؛ بل هي كالشرارة التي إذا أصابت قشة جرت وراءها نارًا عظيمة تأكل ما حولها. والذنوب، وإن استلذها العاصي ساعة وقوعها، تبقى آثارها كامنة في قلبه وروحه، حتى تنمو فتستحيل كآبة دائمة، وحزنًا ملازمًا، وشقاءً يتعاظم مع الأيام.
عقوبات القلب:
أما القلب، فهو أول ما يُصاب بداء المعصية. تُغلّفه الظلمات، وتثقل عليه الغفلات، حتى يصبح كالإناء المقلوب، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا. وقد قيل: “المعصية بريد الكفر”، لأنها تصرف القلب عن الله، وتُثنيه عن الطاعة، فإذا توالت عليه الذنوب، استحكم رانها عليه، كما قال الله تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.
وليس أضر على القلب من قسوة تُطيل بعده عن ربه. فالمؤمن يحيا بقلبه، والذكر ريحانه، والطاعة غذاؤه. فإذا انقطع هذا الغذاء، وهجر الذاكر ذكره، صار القلب كالجسد المريض، يبحث عمن يداويه فلا يجد إلا من يزيد في علته.
عقوبات البدن:
أما البدن، فإن الذنوب تجلب عليه البلايا وتدعوه إلى الشقاء. وقد يتوهم الجاهل أن النعيم الظاهر الذي يحيط بالعاصي دليل على سلامة حاله، ولكنه لا يعلم أن ما يظهر له من صحة الجسد وسعة الرزق ربما كان استدراجًا من الله، كما قال تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ}.
ومن عجيب أمر المعاصي أنها تجعل العاصي يتخبط في أفعاله، لا يستقيم له طريق، ولا تطمئن له حال. وقد يُبتلى في صحته، فيراه الناس معافى وهو في داخله عليل، أو يُبتلى في أهله وماله، فيعيش كالحائر بين أشواك الحياة.
أثر الذنوب على الدين والعقل:
أما الدين، فهو أثمن ما يملك الإنسان، والذنب أول أعدائه. إذ أن المعصية تُبعد العبد عن ربه، فتتراكم الذنوب حتى يجد نفسه في غربة عن الطاعة، وكأنها جبل ثقيل على صدره. وهنا تبدأ المصيبة، فكلما زاد بعده عن ربه، زادت هيمنة المعاصي على حياته، وأصبح أسير شهواته، لا يرى إلا دنياه، ولا يهتم إلا بحاجاته العاجلة.
وأما العقل، فهو ينطفئ نوره مع كثرة الذنوب، فلا يعود قادرًا على التمييز بين الخير والشر، ويتعطل عن رؤية العواقب. يقول الإمام الشافعي في ذلك: “شكوت إلى وكيع سوء حفظي، فأرشدني إلى ترك المعاصي، وأخبرني بأن العلم نور، ونور الله لا يُهدى لعاصٍ.”
في الدنيا والآخرة:
ومن آثار الذنوب في الدنيا أن العاصي يُحرم من بركة الوقت والرزق، وتُغلق أمامه أبواب الخير، ويُحرَم عون الله وتوفيقه. وقد يكون في ظاهر أمره سعيدًا، ولكنه في داخله متعب، تتقاذفه أمواج القلق والحيرة.
وأما في الآخرة، فإن المعاصي هي وقود النار، وأسباب الحرمان من النعيم. ولو علم العاصي ما يدخر له من عذاب بسبب ذنبه، لارتعدت فرائصه خوفًا.
خاتمة:
فالذنوب والمعاصي ليست مجرد أفعال لحظية تنتهي بانتهائها، بل هي أسباب للشقاء وعلل للأرواح، تُفسد القلب وتثقل البدن وتُبعد العبد عن ربه. وكلما تعاظمت الذنوب، ازدادت غربة الإنسان عن سعادته الحقيقية، فيعيش في ظلمات فوق ظلمات. فما أحرانا أن نتوب منها، ونستغفر الله عنها، حتى نعيد لقلوبنا صفاءها، ولنعم الله بركتها، ولحياتنا معناها. {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
اترك تعليقاً