المتاجرة بالدين: خطر يهدد القيم والمجتمع

المتاجرة بالدين: خطر يهدد القيم والمجتمع

الفصل الأول: المقدمة

أما بعد، فإن الحديث عن المتاجرة بالدين حديث ذو شجون، يجمع بين الغصة والأسى، وبين الاستغراب والاستنكار. فقد كان الدين منبع الصفاء ومنهل النقاء، فإذا به يُستغل ممن لا يعرفون من معانيه إلا الظواهر، ولا من مقاصده إلا ما يتوافق مع أهوائهم. وما المتاجرة بالدين إلا درب من دروب الخداع، يضمر المرء فيه خلاف ما يظهر، ويتخذ من العبارات المُتقاة سُلماً لمآرب دنيا.

وكيف لا تكون هذه الظاهرة قضيةً مجتمعيةً خطيرةً، وهي تزرع الشك في القلوب، وتنزع الثقة من الصدور، حتى يغدو المؤمن متردداً، أهو أمام داعية حق أم بائع شعارات؟

وأما تأثيرها على الأفراد، فإنه عظيم؛ إذ تضعف الفطرة السليمة، وتفتن القلوب عن الدين القويم. وأما على المجتمع، فإنها تنخر نسيجه، وتفسد قوامه، وتضعف وحدته، فيغدو عرضةً للفرقة والتشتت.

الفصل الثاني: مفهوم المتاجرة بالدين

اعلم – رحمك الله – أن المتاجرة بالدين هي أن يتخذ المرء من مظاهر الدين وسيلةً، لا لتحقيق مراد الله في الأرض، بل لتحقيق أغراض نفسه في الدنيا.

وأما من حيث اللغة، فإن التجارة أصلها تقليب الشيء طلباً للربح، ومن ثم فإن المتاجرة بالدين هي تقليب شعاراته ومظاهره لجني المكاسب. وأما من حيث الاصطلاح، فهي استغلال الدين لأغراض دنيوية تتعارض مع مقاصده السامية.

وفرق بين التدين الحق والمتاجرة بالدين، كالفرق بين اللؤلؤ المزروع في قاع البحر والخرز المصنوع في مصانع البشر؛ فأما الأول، فإن بريقه من ذاته، وأما الآخر، فإن بريقه مستعار.

التدين الحق ما كان خالصاً لوجه الله، يبتغي به صاحبه رضا الله وحده. وأما المتاجرة بالدين، فهي رياءً وزيفاً، يتقن صاحبها فن التظاهر، ويجيد خديعة الناظر.

الفصل الثالث: أشكال المتاجرة بالدين

وإن للمتاجرة بالدين أشكالاً وألواناً، كألوان الطيف في تعددها، وكحيل الثعلب في دهائها.

أما الشكل الأول، فهو اتخاذ الدين مطية للوصول إلى المناصب السياسية. ترى أحدهم، إذا ترشح لمجلس أو تقلد منصباً، قد تزين بثوب الورع، ورفع راية الصلاح، حتى إذا حصل على ما أراد، خلع الثوب، وأسقط الراية، وانصرف إلى ما كان عليه من الطمع.

وأما الشكل الثاني، فهو استغلال الخطاب الديني لجمع الأموال والمكاسب المادية. تجد المتاجر بالدين يخطب في الناس، ويعدهم وعوداً، ويستميل عواطفهم، حتى تنفتح لهم الجيوب، وتنهمر الدراهم. وهو في ذلك يُظهر الحزن على حال الأمة، ويُبطن السرور بجمع المال.

وأما الشكل الثالث، فهو المتاجرة بالدين في الإعلام والمنابر العامة. ترى أحدهم يتصدر الشاشات، ويُزين كلماته بما يروق للأسماع، لا ابتغاء إصلاح أو تعليم، بل ابتغاء شهرة ومكانة بين الناس.

فانظر – حفظك الله – إلى هذه الأشكال، كيف اجتمعت على مقصد واحد، وهو الدنيا، لا الآخرة. فما أشد ضررها، وما أبلغ خطرها!

الفصل الرابع: أسباب المتاجرة بالدين

أما الأسباب التي تدفع المرء إلى المتاجرة بالدين، فهي كالأمراض الخفية التي تفتك بالجسد دون أن يشعر بها صاحبها.

أولها الجهل بالدين وقلة الوعي لدى العامة؛ فإنك ترى الجاهل بالدين، إذا ما سمع عبارات مزخرفة، أو أُلقيت عليه موعظة مزيفة، ظن أنها من الحق المبين، وأن قائلها من ورثة الأنبياء. ولولا ضعف الوعي، ما وجد المتاجر بالدين سوقاً رائجةً لسلعته.

وثانيها الطمع وحب السلطة والمكاسب المادية؛ فإن النفوس، إذا لم تُزكَّ بالتقوى، شغفت بالدنيا، وراحت تطلب المناصب والثراء بكل وسيلة، حتى لو كانت على حساب الدين. وإن من الناس من يرى في الدين مطية إلى السلطة، وفي الوعظ مفتاحاً إلى المال.

وثالثها غياب القوانين الرادعة والمساءلة؛ إذ لو كانت القوانين تفضح المتاجرين بالدين، وتحاسبهم على خداعهم، لما تجرؤوا على العبث بعقول الناس ومشاعرهم. لكن ضعف الرقابة، وغياب العقوبات، جعلا الباب مفتوحاً على مصراعيه لمن أراد العبث بالدين.

الفصل الخامس: آثار المتاجرة بالدين

اعلم – أيدك الله – أن المتاجرة بالدين لها آثار عظيمة، تنخر في جسد المجتمع كما ينخر السوس في الخشب.

أما أولها، فهو زعزعة الثقة بالمؤسسات الدينية والدعاة. ترى الناس، بعدما ينكشف أمر المتاجر بالدين، ينظرون إلى كل داعية بعين الريبة، ويظنون بكل عالم السوء، حتى يُظلم الصادق بجريرة الكاذب.

وأما ثانيها، فهو تراجع القيم الأخلاقية والدينية. فإن الناس، إذا رأوا الدين يُباع ويُشترى، استهانوا بقيمه، وابتعدوا عن فضائله، فيسود بينهم الكذب، ويغيب الإخلاص.

وثالثها تأثيرها السلبي على وحدة المجتمع واستقراره. إذ إن المتاجرة بالدين تُفرِّق الناس، وتجعلهم فرقاً متناحرة، كل فرقة تُصدق داعية، وتُكذب آخر. وهكذا، يتحول المجتمع إلى ساحة صراع بدلاً من أن يكون بيتاً للتآلف.

الفصل السادس: أمثلة من الواقع

وأما الأمثلة على المتاجرة بالدين، فهي كثيرة في الماضي والحاضر، كالمنارات التي تضيء في ظلام التاريخ لتحذر السائرين.

فمن الأمثلة التاريخية، ما كان من أمر بعض القادة الذين رفعوا راية الدين في حروبهم، لا لرفع كلمة الله، بل لتوسيع ملكهم. ترى أحدهم، يرفع شعارات الجهاد، ويتظاهر بالزهد، فإذا ما انتصر، أقام في القصور، وجمع الكنوز.

وأما الحالات المعاصرة، فكثيرة في عصرنا. ترى في الإعلام مَن يتخذ الدين سلماً إلى الشهرة، ويجعل من الخطاب الديني وسيلة للتأثير في العامة، لا إصلاحاً لقلوبهم، بل استثماراً في جيوبهم.

وتحليل هذه الأمثلة يُظهر لنا أن المتاجرة بالدين ليست وليدة عصر واحد، بل هي مرض قديم يتجدد، يحتاج إلى حكمة العلماء ووعي العامة لقطع دابر المتاجرين.

الفصل السابع: كيفية مواجهة المتاجرة بالدين

إن مواجهة المتاجرة بالدين تحتاج إلى قوة في البصيرة وحكمة في التدبير، فإنما هي كالطبيب الذي يُشخص الداء ويصف الدواء.

وأول الطرق إلى ذلك تعزيز الوعي الديني الصحيح لدى الأفراد. فإن الجاهل بالدين كالأعمى الذي يقوده كل من أمسك بيده، لا يفرق بين طريق الهلاك وطريق النجاة. ولا يكون الوعي إلا بتعلم الدين من أهله، وبالعودة إلى القرآن والسنة، وبالتمييز بين الحقائق الشرعية والشعارات المزيفة.

وثانيها دور العلماء والدعاة في فضح المتاجرين بالدين. فإن العالم الذي يسكت عن الباطل شريك فيه، والداعية الذي يغض الطرف عن المتاجرين يُمهد لهم الطريق. والعلماء المخلصون هم سراج الأمة، يكشفون زيف المدعين، ويهدون الناس إلى صراط الله المستقيم.

وثالثها أهمية سن القوانين التي تمنع استغلال الدين. فإن القانون إذا كان صارماً، منع المستغلين من اللعب بعواطف الناس، وأوقف المتاجرين عند حدودهم. والقوانين الرادعة هي عصا المجتمع التي تضمن أن يُصان الدين عن كل عبث واستغلال.

الفصل الثامن: الدين الحقيقي بين الإخلاص والمتاجرة

اعلم – أعزك الله – أن الدين في أصله رسالة سامية، تهدي الإنسان إلى الخير، وتبعده عن الشر. ولكنه حين يُستغل لأغراض دنيوية، يتحول من نور يهدي إلى نار تحرق.

فالدين الحقيقي هو إخلاص العمل لله، لا رياءً للناس، ولا طمعاً في الدنيا. أما المتاجرة بالدين، فهي جعل الدين وسيلة إلى الغايات الشخصية، سواء كانت مالاً أو منصباً.

ومن النماذج المشرقة لمن يلتزمون بالدين بإخلاص، نجد العلماء الربانيين الذين عاشوا حياتهم بين الكتب والمحراب، لم يطلبوا مالاً، ولم يبتغوا شهرة، بل عملوا لوجه الله وحده. وكذلك الصالحين الذين يُعرفون بأفعالهم، لا بأقوالهم، فيُحيون القيم الدينية في أنفسهم وفي مجتمعاتهم، دون أن ينتظروا جزاءً أو شكوراً.

الفصل التاسع: خاتمة

وفي الختام، نقول إن المتاجرة بالدين ليست مجرد ظاهرة تُستنكر، بل هي خطر يهدد الدين والمجتمع معاً. فإننا إن لم نواجهها بحزم، ستضعف القيم، وتنهار الثقة، ويتشتت المجتمع.

ودعوتنا إلى كل فرد أن يلتزم بالدين بإخلاص، فلا يجعل الدين جسراً إلى مصالحه، بل يجعله نوراً يهديه في حياته.

وكل فرد في المجتمع مسؤول عن التصدي لهذه الظاهرة، سواء بنشر الوعي، أو بدعم العلماء المخلصين، أو بالمساهمة في تطبيق القوانين الرادعة. وبذلك، يعود للدين مكانته الحقيقية، فيكون كما أراده الله، هدايةً ورحمةً للناس أجمعين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *