حديث الأربعين النووية (24): "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي".. شرح مفصل وفوائد عملية
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
بدأ نبيّنا الكريم صلى الله عليه وسلم خطبته بذكر الله عز وجل، داعيًا إيانا إلى التقوى والتوبة إليه، مستشهدًا بآيات قرآنية كريمة تحث على التقوى والإسلام:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
ثم شرع في الحديث الشريف عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عن ربه عز وجل:
((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا، يا عبادي كلُّكم ضالّ إلا من هديتُه، فاستهدوني أَهدكم، يا عبادي كلكم جائع، إلا من أطعمته، فاستطعموني أُطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ، إلا من كسوته، فاستكسوني أكسُكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسَكم وجنَّكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد، ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أُحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا، فليحمَدِ الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومنَّ إلا نفسه))[1].
معاني الحديث الشريف ومستفاداته:
يُعد هذا الحديث الشريف من أروع وأهم الأحاديث النبوية، فهو جوامع كلم، ويشمل على قواعد أساسية في الدين الإسلامي. سنستعرض أهم جوانبه ومستفاداته:
1. تحريم الظلم:
يؤكد الحديث الشريف على تحريم الظلم بجميع أنواعه، فهو محرم على الله نفسه، وبالتالي فهو محرم على عباده. ينقسم الظلم إلى نوعين رئيسيين:
-
ظلم النفس: وهو ظلم العبد لنفسه، كالشرك بالله تعالى، أو عصيان أوامره، كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13]، و﴿ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾ [الطلاق: 1].
- ظلم الآخرين: وهو ظلم العبد لغيره، ويتمثل في العديد من الأفعال، منها:
- الاحتلال والعدوان: كاحتلال فلسطين وتنكيل اليهود بأهلها.
- أكل أموال الناس بالباطل: السرقة، الغش التجاري، الرشوة، الربا.
- الاعتداء على الأعراض والأرواح: القتل، الضرب، التشهير، الغيبة، القذف.
- قطع الرحم: إهمال الأقارب وعدم التواصل معهم.
- إيذاء الجار: بأي نوع من أنواع الأذى.
يحثنا الحديث على التقوى والعدل، وأن نتأسى بالله تعالى في عدله وحكمته، متجنبين كل صور الظلم والعدوان، محافظين على حقوق المسلمين، متذكرين قوله تعالى: ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46]، وقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا ﴾ [يونس: 44].
2. افتقار العباد إلى الله وغناه المطلق:
يُبرز الحديث الشريف افتقار العباد إلى الله تعالى في جميع أمور حياتهم، وغنى الله المطلق عن خلقه. هذا يتجلى في:
- الحاجة للهداية: فكلنا ضالون إلا من هدانا الله، لذلك علينا أن نستهديه ونطلب منه الهداية.
- الحاجة للرزق: فكلنا جائعين إلا من أطعمنا الله، لذلك علينا أن نلجأ إليه في طلب الرزق.
- الحاجة للكسوة: فكلنا عراة إلا من كسانا الله، لذلك علينا أن نتوكل عليه في توفير الكساء.
- الحاجة للمغفرة: فكلنا نخطئ، لذلك علينا أن نستغفره ونطلب منه المغفرة.
ويؤكد الحديث على أن عبادتنا لا تزيد في ملك الله شيئًا، ومعصيتنا لا تنقص من ملكه شيئًا، فالله غنيٌّ عن عباده، لكننا نحن الفقراء المحتاجون إليه.
خاتمة:
ختامًا، يُعد هذا الحديث الشريف من أهم الأحاديث التي تُنير لنا الطريق إلى حياة كريمة، تُبنى على أساس العدل والتقوى، والإيمان التام بغنى الله وقدرته، وأن نستهديه في كل أمور حياتنا. نسأل الله تعالى أن يهدينا ويوفقنا لما يحبه ويرضاه.
[1] رواه مسلم، رقم: 2577.
[2] رواه أحمد في المسند، رقم: 30.
[3] رواه مسلم، رقم: 2564.
اترك تعليقاً