رمضان وذي الحجة: مقارنة بين زخم الطقوس وصدق العبادة
مع حلول شهر رمضان المبارك، تتجلى مظاهر التعبد الشعبي في أبهى صورها، حيث يمتزج الجانب الإيماني بالاحتفالي، وتتداخل الشرائع مع الموروثات الشعبية. فتُفتح الأبواب أمام الناس للإقبال على الطاعة، ليس فقط من خلال النصوص الدينية، بل أيضًا عبر نوافذ الطقوس الجماعية التي تبعث في النفوس البهجة والروحانية.
- فوانيس رمضان: تضيء الشوارع والأزقة، لتنشر أجواء من الفرح والسرور.
- مدفع الإفطار: رمز تاريخي يرتبط بذاكرة الشهر الفضيل، يعلن نهاية الصيام وبدء وقت الإفطار.
- المائدة الرمضانية: تتزين بأشهى الأطباق، وكأنها تعوض صيام عام كامل، وتجمع الأهل والأحباب.
- المسحراتي: يجوب الأحياء لإيقاظ النيام، مُعيدًا ذكريات الطفولة وعبق الماضي.
في خضم هذا الزخم الجماعي، تتجدد العزائم وتتيسر العبادات، فيصوم الناس ويقومون الليل، وكأن الجماعة تدعم الفرد والجو العام يلهم القلب.
مفارقة بين العشر الأواخر من رمضان والعشر الأوائل من ذي الحجة
لكن، بالتأمل في هذه الأجواء الروحانية، نلاحظ مفارقة لافتة: فبينما تشهد العشر الأواخر من رمضان توهجًا كبيرًا وإقبالًا واسعًا، لا تحظى العشر الأوائل من ذي الحجة، التي وصفها النص بأنها "خير أيام الدنيا"، بنفس القدر من الاهتمام والتفاعل الشعائري.
ما السبب وراء هذا الاختلاف؟
السبب يكمن في طبيعة العبادات في كلتا الفترتين. ففي رمضان، تتسم العبادات بطابع جماعي، يواكبها صخب واحتفالات، بينما في ذي الحجة، تكون العبادات في معظمها فردية، تتطلب حضورًا خافتًا وتوجهًا داخليًا، لا يسمعه إلا من أنصت لنفسه.
العشر الأوائل من ذي الحجة: موسم استئناف العهد
العشر الأوائل من ذي الحجة ليست موسمًا للاستعراض، بل هي فرصة ثمينة لاستئناف العهد مع الله، وتجديد الميثاق الذي قد يكون قد انقض في ليالي رمضان، وتصحيح المسار بعد أن تشتت التركيز خلف زخارف الطقوس.
إنها عشر البصيرة لا البهرجة، حيث تصوم النفس في وضح النهار، وتتبصر حقيقة الدنيا من خلال مشهد أخروي معجل يتجسد في عرفات: خلوة جماعية في صعيد واحد، تحت شمس واحدة، يتسابق الناس فيها إلى الله وكأنهم تجردوا من كل ما سواهم. وهذا هو الحج الأكبر لمن أبصر.
رحلة قلبية في العشر الأوائل من ذي الحجة
في هذه العشر المباركة، لا نطوف بأجسادنا حول الكعبة، بل تطوف أفئدتنا بكعبة القرب من الله. نرتدي لا إحرام القطن، بل إحرام النية الصادقة. نسعى بين صفا القرار ومروة التوبة، نبحث عن زمزم يروي ظمأ عام كامل من التقصير والغفلة والركض بلا هدف.
خاتمة السنة الهجرية: مسك العبادة
وإذا كان ختام السنة الهجرية هو هذه العشر المباركة، فإنها المسك الذي تُعطر به الأيام، والغسل الأخير من أدران عامين، والمقام الذي سئل فيه النبي ﷺ عن صيام يوم عرفة، فقال: "يكفّر السنة الماضية والباقية". أي عبور هذا الذي يغسل ما لم يقع بعد؟ وأي رحمة تلك التي تمحو الذنوب قبل أن تُكتب؟
دعاء:
اللهم جدد في قلوبنا الإيمان، كما يجدد المطر الحياة في الأرض المقفرة، واجعل لنا من هذه العشر مقامًا إلى عرفات القلب، ووضوحًا في البصيرة، وثباتًا في الاستعانة، ونجاة من فتن الغرور والاكتفاء، وهب لنا توبة تهدينا إليك، وتحرسنا من التيه في شعاب الهوى.
اترك تعليقاً