فضل الحجّ والمقام: أجر عظيم لكلّ قلبٍ مخلص
الحمد لله الذي فضّل مواسم الطاعات، وفتح لعباده أبواب القربات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عظيم العطاء، واسع الرحمة، مجيب الدعاء، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، سيد الحجاج، وإمام العابدين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإنها زاد الراحلين، ووصية الأولين والآخرين.
أيام الله العظيمة: مضاعفة الحسنات وتوبة الخاطئين
عباد الله، اليوم هو اليوم الثالث من أيام الله العظيمة، أيام العشر من ذي الحجة، خير أيام الدنيا. فيها تضاعف الأعمال، وترتفع الدرجات، وتُغفر الذنوب، وتُعتق الرقاب. لعظم شأنها أقسم الله بها، كما في قوله تعالى: ﴿ وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾ [الفجر: 1-2]. وقد قال الإمام السيوطي رحمه الله: "قسم الله ببعض المخلوقات دليل على أنها من عظيم آياته"[2].
الحجّ والمقام: قلبان يتجهان نحو الرحمان
في هذه الأيام، نشهد مشهدًا عظيمًا: حجاج بيت الله الحرام، الذين لبّوا نداء الرحمن، وتركوا أوطانهم، وتجردوا من زينتهم، سعياً إلى بيته الحرام. وفي المقابل، هناك من بقي في دياره، لكن قلوبهم مع الحجاج، قائمين، صائمين، ذاكرين، مقرّبين أنفسهم إلى الله. فمنهم من شرفه الله بالوقوف بعرفة، ومنهم من شرفه الله بصوم عرفة، ومنهم من رمى الجمار، ومنهم من رمى الشهوات، ومنهم من ذبح الهدي، ومنهم من قرب الأضاحي.
فليست المقارنة بين أجساد، بل بين قلوب، وليست المفاضلة بين مواقف، بل بين أعمال. العبرة بما وقر في القلب وصدقه العمل.
الحاجّ: ضيف الله في بيته الحرام
الحاجّ ضيف الله في بيته، باع راحته، وغادر أهله، وتحلّل من زينته، لبس إحرامه، ونادى ملبيًا: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك…"[3]. صعد إلى عرفات، ووقف في موقف الأنبياء، خاشعًا، باكيًا، داعيًا. بشّر النبي صلى الله عليه وسلم بأن: "ما من يوم أكثر من أن يُعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليَدْنُو، ثم يُباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟"[4]. من حجّ صادقًا، مخلصًا، متجردًا من الرياء، فقد عاد كيوم ولدته أمه، كما قال المصطفى: «من حج فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كما ولدته أمه»[5].
أركان الحجّ ومعانيها العظيمة:
- السعي: إحياء لذكر أمٍّ صالحة (هاجر)، وسعي لرضى ربٍّ كريم.
- الرمي: استذكار لمعركة الشيطان مع إبراهيم، وتجديد العهد بترك المعاصي.
- الذبح: امتثال لأمر الله، وتأسٍ بالخليل، وتعبير عن التوحيد، كما قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162].
المقيم: قلبٌ خاشعٌ وعملٌ يزكو
هل حُرم المقيم من الأجر؟ كلا! بل ربما بلغ ما لم يبلغه الحاج إن صدق، وأخلص، وجدّ واجتهد. المقيم في بلده، صائمٌ في عشر ذي الحجة، ذاكرٌ، متصدّقٌ، خاشعٌ، قائمٌ. وقد جاء في الحديث: «ما العمل في أيام أفضل منها في هذه؟» قالوا: ولا الجهاد؟ قال: «ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشيء»[7].
أيام العشر ليست للحجاج فقط، بل هي هبة من الله لكل عباده. ومن لم يبلغ البيت، فقد بُسطت له أبواب العمل في كل موضع:
- صيام يوم عرفة: يكفر الله به سنةً قبله وسنةً بعده[8].
- أضحية يوم النحر: تنال بها رحمة الله وتكون من المبشرين، كما قال تعالى: ﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الحج: 37].
- التكبير في العشر وأيام التشريق: ذكر الله في هذه الأيام الفاضلة[9, 10, 11].
- الذكر، والصلاة، والقرأة، والاستغفار، والصدقة: رب عمل خفيٍّ في زاوية بيتٍ، يعدل عند الله آلاف الأقدام في بطحاء منى.
الميزان الرباني: القلوب تُوزَن، لا الأجساد
في الميزان الرباني: القلوب تُوزَن، لا الأجساد. فقد يُحبس العبد عن الحج لعذر، لكن يُكتب له الأجر كاملًا. قال النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك: «إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم»، قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟ قال: «وهم بالمدينة، حبسهُم العذر»[14].
كم من عبد لم يصل إلى مكة بجسده، لكن بلغه الله برحمته أجر الحجّ، وكم من حاجٍّ عاد بجسده، لا بقلبه، ولا بعمله.
دعوة للصدق والإخلاص في العمل
يا من نلت شرف الحجّ، احمد الله، وتذكر من لم يُكتب له. ويا من بقيت في بلدك، لا تظنّ أن الفضل قد فاتك، فالله أعظم، وأرحم، وأعدل من أن يحرمك أجرًا صدقت فيه. ابدأ عشرك بالنية، وأخلص في عملك، وأكثر من الذكر، صم، وتصدّق، وأحسن، وضحّ، وادعُ كما دعا الحجيج. فربك يسمع من عرفة، ويسمع من غير عرفة، ويسمع من كل أرض عبده فيها أخلص[15].
بشرى بالجنة: ثوابٌ عظيمٌ لمن ذكر الله
بشّرني الله وإياكم بجنة عرضها السماوات والأرض. قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: «ما أهلّ مُهِلٌّ قطّ إلا بُشّر، ولا كبّر مُكَبّرٌ قطّ إلا بُشّر» قيل: يا رسول الله، بالجنة؟ قال صلى الله عليه وسلم: «نعم»[16].
الجنة عباد الله بغية المؤمنين في كل زمان ومكان، ومن أقصر الطرق إليها ذكر الله عز وجل.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
المراجع:
[1] سورة الفجر: الآيتان 1، 2.
[2] الإتقان في علوم القرآن (4 / 57
اترك تعليقاً