خواتيم الأعمال: استعدادٌ لِلقاءِ اللهِ في العشر الأُولى من ذي الحجة
الحمد لله الذي خلق الزمان، وأجرى الشهور والأعوام، وقسم الأرزاق، وضرب الآجال، كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾ [آل عمران: 145]. نحمده على ما هدانا، ونشكره على ما أعطانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله تعالى حق جهاده، صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
العشر الأُولى من ذي الحجة: أيامٌ عظيمةٌ
فاتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بالعروة الوثقى، فإنكم في أيام عظيمة، عظمها الله تعالى فجعلها أعظم الأيام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أعظم الأيام عند الله يوم النحر» رواه أحمد، وهو يوافق يوم الجمعة، أفضل الأيام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة» رواه مسلم. وفي هذا اليوم العظيم يتقرب المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها لله تعالى بذبح أضاحيهم، تليها أيام التشريق، وهي أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى، كما في الحديث الصحيح. يا لها من أيام عظيمة! والحاج يبيت لياليها بمنا، ويرمي الجمرات، ويدعو الله تعالى ويكبره، وهذه الشعائر من تعظيم الله تعالى في تلك الأيام، كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32].
اغتنام الفرصة في العمل الصالح
ومن وفق للعمل الصالح في عشر ذي الحجة فليحمد الله تعالى على هدايته وتوفيقه، وليدم على العمل الصالح بعدها. فالمؤمن يعبد الله تعالى إلى نهاية دنياه. وعلى الذين جدوا واجتهدوا في العشر المباركة أن يُعلقوا بِالله قلوبهم، ويسألوه قبول أعمالهم، وصلاح أحوالهم، ويجتهدوا في مراضيه، ويجتنبوا معاصيه، فهم في خير عظيم، لا بد أن يستمروا عليه. وعلى المُفرطين المُضيعين في العشر أن يثوبوا إلى رشدِهم، ويتوبوا إلى ربهم، ويقلعوا عن ذنبهم قبل حلول أجلهم. تاب الله علينا وعليهم.
خاتمة العام وختام العمر
إن الحج خامس أركان الإسلام، وشرعه الله تعالى في آخر العام، فيختم الحاج عامه بهذا النسك العظيم، وغير الحاج يختمه بالتعبد لله تعالى في عشر ذي الحجة، والتقرب بالضحايا لله تعالى. وهذا مُذَكِّرٌ للمؤمن بأن يجتهد في ختام عمره بطاعة الله تعالى، وذلك بأن يكون عامه هذا خيرًا من عامه الذي قبله، وعامه القادم خيرًا من عامه هذا، فيزداد طاعة لله تعالى كلما زاد عمره؛ لأنه في رحلة إلى الله تعالى منذ ولادته إلى وفاته، وكل عام يمضي يقصر العمر ويقرب الأجل. فكم فرط العبد في حياته؟ وكم من فرائض ضيعها أو قصر فيها؟ وكم من نوافل أهملها وتركها؟ وكم من معاص ارتكبها؟ وكم من حقوق لله تعالى وللخلق بخسها؟ فإذا استحضر أن العمر يمضي جد واجتهد في عبادة الله تعالى.
قال مسروق بن الأجدع الهمداني: «إذا بلغ أحدكم أربعين سنة فليأخذ حذره من الله سبحانه». وقال إبراهيم النخعي: «كانوا يطلبون الدنيا، فإذا بلغوا الأربعين طلبوا الآخرة». وقال يحيى بن معاذ: «مقدار عمرك في جنب عيش أهل الجنة كنفَسٍ واحد، فإذا ضيعت نفسك فخسرت عيش الأبد إنك لمن الخاسرين». وهذه من أبلغ المواعظ. فكم يمكث الإنسان في الدنيا؟ إنه إذا عمر بلغ مئة أو زاد على المئة، وإذا مات قامت قيامته، فإما مُنعَّمٌ في قبره وإما مُعَذَّبٌ، وكم يمكث في قبره؟ لا يعلم ذلك إلا الله تعالى، ولكن أناسًا في قبورهم يُنَعَّمون من مئات السنين، وآخرين يُعَذَّبون فيها منذ قرون، وإذا كان يوم القيامة، وبُعثوا من قبورهم، فإما خلود في الجنات، وإما خلود في الجحيم. فهل تُساوي الدنيا أن نبنيها، وأن يكون جل عملنا لها، وننسى دار قرارنا؟ لعمر الله إن تلك لغفلة تؤدي إلى خسارة، وأعظم الخسارة خسارة يوم القيامة، كما قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ﴾ [الزمر: 15-16].
الاعتبار بمرور الزمن
مضى عامنا هذا في لمح البصر، كنا ننتظر دخوله، ثم انتظرنا رمضان واستبشَرنا به، ومضى سريعًا، ثم انتظرنا الحج، وها نحن في الحج، وسيَمضي سريعًا، وينتهي العام إلى عام جديد يمضي كما مضى ما قبله، يموت أناس ويولد آخرون، والحياة كلها تمضي كما مضى هذا العام، فَلْنَعْتَبِرْ بذلك، ولنعمل ما يُنجينا. وخير الناس من ازداد عمله الصالح بطول عمره. سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال: من طال عمره وحسن عمله، قال: فأي الناس شر؟ قال: من طال عمره وساء عمله» رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. وجاء رجل إلى عِراك بن خالد وقد وقعت فتنة في الناس فقال له: «يا أبا الضحاك، طاب الموت. قال: يا ابن أخي لا تفعل؛ لساعة تعيش فيها تستغفر الله خير لك من موت الدهر». ودخل سليمان بن عبد الملك المسجد فرأى شيخًا كبيرًا، فدعا به فقال: «يا شيخ: أتحب الموت؟ قال: لا. قال: بم؟ قال: ذهب الشباب وشرّه، وجاء الكبر وخيره، فإذا قمت قلت: بسم الله، وإذا جلست قلت: الحمد لله، فأنا أحب أن يبقى لي هذا». وقيل لشيخ: «ما بقي منك مما تحب له الحياة؟ قال: البكاء على الذنوب». وقال سعيد بن جبير: «كل يوم يعيشه المؤمن غنيمة».
أسوةٌ بالصالِحين
وكان السلف الصالح يتأسفون عند موتهم على انقطاع أعمالهم عنهم بالموت. عن قتادة: «أن عامر بن عبد الله لما حضر جعل يبكي، فقيل له: ما يُبكيك؟ قال: ما أبكي جزعًا من الموت، ولا حرصًا على الدنيا، ولكن أبكي على ظمأ الهواجِرِ وقِيَامِ ليالي الشتاء». وبكى عبد الرحمن بن الأسود عند موته وقال: «وأسفاه على الصوم والصلاة! ولم يزل يتلو القرآن حتى مات». ولما احتضر يزيد الرقاشي بكى، فقيل له: «ما يُبكيك رحمك الله؟ قال: أبكي والله
اترك تعليقاً