المثلث الحدودي الملتهب: كيف يشعل الصراع الليبي السودان ومصر؟

المثلث الحدودي الملتهب: كيف يشعل الصراع الليبي السودان ومصر؟

مقدمة: هدوء يسبق العاصفة

في صباح يوم حار من شهر يونيو/حزيران 2025، خيّم الهدوء الظاهري على المثلث الحدودي الذي يربط السودان ومصر وليبيا. لكن هذا الهدوء كان يخفي تحته صراعًا مكتومًا على وشك الانفجار، صراعًا يتجاوز الحدود المرسومة ويُهدد بزعزعة استقرار المنطقة بأسرها.

شرارة البداية: اشتباكات تكشف المستور

في ذلك اليوم، اندلع اشتباك بين وحدة من كتيبة "سبل السلام" السلفية، الموالية للواء المتقاعد خليفة حفتر، وعناصر من "القوة المشتركة" السودانية، مدعومة بقوات من الجيش السوداني. بالتزامن مع ذلك، انتشر مقطع فيديو يظهر أحد قادة قوات الدعم السريع وهو يأمر عناصره بالانسحاب من داخل الأراضي المصرية، مؤكدًا أن "هذه ليست أرضنا".

هذا الاشتباك لم يكن مجرد حادث عابر، بل كشف عن مدى تداخل خطوط التماس الجغرافي والعسكري بين الدول الثلاث، والانزلاق الخطير نحو صراع إقليمي أوسع.

السودان: حدود مفتوحة على الفوضى

تحولت الحدود السودانية، التي كانت في السابق مجرد خطوط على الخرائط، إلى فضاء مفتوح تتحرك فيه المجموعات المسلحة، وشبكات التهريب، والمليشيات المتحالفة مع أطراف خارجية. هذا الواقع يفاقم من هشاشة الوضع الأمني ويزيد من تعقيد المشهد الإقليمي.

ليبيا: مركز لوجستي لتأجيج الصراع

منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل/نيسان 2023، أصبحت مناطق الجنوب الليبي مركزًا لوجستيًا تنطلق منه عمليات تهريب السلاح وتجنيد المرتزقة. هذه المنطقة، وخاصةً الكفرة الليبية، تُعتبر معبرًا غير رسمي للسلاح والمقاتلين، مما يزيد من حدة الصراع في السودان.

الجنوب الليبي: عقدة استراتيجية

يمثل الجنوب الليبي عقدة استراتيجية تربط شمال أفريقيا بجنوب الصحراء الكبرى. تُعد منطقة فزان من أكثر المناطق هشاشة أمنياً في شمال أفريقيا، حيث تتقاطع فيها شبكات التهريب مع الجماعات المسلحة العابرة للحدود. تهريب الذهب والسلاح والمهاجرين يمثل مثلث التجارة الذي يغذي هذه الشبكات.

  • الفوضى بعد القذافي: عقب تفكك نظام القذافي في عام 2011، تحوّل الجنوب الليبي إلى حاضنة للفوضى، وتركز النزاع حول السيطرة على طرق التهريب والمراكز الحضرية، ومن ثم على موارد النفط وتوزيع وتهريب الوقود.
  • كنز الذهب المشتعل: اكتشاف كميات كبيرة من الذهب في شريط يمتد من شمال دارفور إلى موريتانيا مرورًا بليبيا والنيجر خلال الفترة الممتدة من 2011 إلى 2014 أضاف مزيدًا من اللهب إلى الصراع.
  • طرق تهريب المخدرات: تقع المنطقة ضمن خطوط تهريب المخدرات دوليًا، حيث يُنقل الكوكايين من أميركا الجنوبية إلى غرب أفريقيا، ثم إلى جنوب ليبيا وتشاد والنيجر، ومن تلك البلاد إلى الجزائر أو مصر، ثم إلى أوروبا والشرق الأوسط.

كتيبة "سبل السلام": أداة حفتر في الجنوب

في هذا المناخ المضطرب، تأسست كتيبة "سبل السلام" في الكفرة خلال عام 2015 على يد مقاتلين محليين من قبيلة الزوية بقيادة عبد الرحمن هاشم. تبنت الكتيبة الفكر السلفي المدخلي، مما منحها شرعية دينية للتحرك باسم ضبط الأمن وكبح الفوضى.

  • تحالف استراتيجي: سرعان ما بدأت الكتيبة تنسق مع قوات المشير حفتر لتأمين المعابر وحماية عمليات التنقيب عن الذهب وتهريب الوقود، بالإضافة إلى التصدي لمجموعات المعارضة السودانية والتشادية المناوئة لحفتر والمتمركزة في جنوب ليبيا.
  • مساحة للمناورة: أدرك حفتر أن تثبيت أوراقه جنوبًا قد يمنحه مساحات مناورة تفتقر إليها بقية أطراف النزاع، فتحرك بخطى ثابتة نحو سبها وأوباري والكفرة، ساعيًا لتأمين ممر خلفي يربطه بتشاد والنيجر والسودان.

حفتر والسودان: فرصة للاستثمار في الفوضى

ينظر حفتر إلى السودان كمساحة رخوة قابلة للاستثمار. منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، رأى حفتر فرصة ذهبية لتعميق تدخله، وقدم الدعم اللوجستي لقوات الدعم السريع، مستخدمًا في ذلك كتيبة "سبل السلام" السلفية.

  • خطوط الإمداد: استخدمت قوات الدعم السريع الخط الرابط بين العوينات والكفرة كخط إمداد عسكري وتهريب وقود وسلاح، مما منح كتيبة سبل السلام دورًا إقليميًا يتجاوز الحدود الليبية.
  • المصالح المتشابكة: يمثل طريق الكفرة – دارفور شريانًا حيويًا لنقل الذهب من دارفور وكردفان إلى الخارج، مما ربط المصالح الاقتصادية للدعم السريع والمشير حفتر بالمصالح الأمنية، وجعل الانخراط الليبي في السودان ليس فقط عسكريًا، بل تجاريًا أيضًا.

البعد الأوروبي الخفي

لا يمكن إغفال البعد الأوروبي في معادلة الجنوب الليبي، حيث سبق أن دعمت بروكسل في عهد البشير عبر "عملية الخرطوم" ترتيبات أمنية تهدف للحد من الهجرة غير النظامية من القرن الأفريقي، وقدمت عشرات الملايين من اليوروهات للخرطوم. هذه السياسات عززت منطق الاستعانة بالمليشيات، ومنحت لاعبين محليين هامشًا للتحرك بذريعة مكافحة الهجرة، في حين استخدموا الأموال لتعزيز قبضتهم الأمنية وتحالفاتهم العابرة للحدود.

قاعدة معطن السارة: مركز لوجستي متقدم

في الربع الأول من عام 2025، فعّلت قوات حفتر قاعدة معطن السارة الجوية، الواقعة في أقصى الجنوب الشرقي الليبي، مستفيدة من موقعها الاستراتيجي قرب المثلث الحدودي مع السودان وتشاد. تشير صور الأقمار الاصطناعية إلى نقل معدات ثقيلة وطائرات شحن روسية إلى القاعدة، بالتوازي مع أعمال ترميم نفذتها عناصر فنية روسية.

  • دعم غير معلن: تحولت القاعدة إلى مركز لوجستي متقدم يربط بين الكفرة والحدود السودانية، ويُستخدم في دعم عمليات غير معلنة لقوات الدعم السريع، عبر إمدادها بالذخيرة والوقود.
  • تأمين القاعدة: تتولى كتيبة "سبل السلام" تأمين محيط القاعدة وتسيير دوريات مراقبة على الطرق الصحراوية، مما يجعلها حلقة أساسية في شبكة النفوذ التي يديرها حفتر في الجنوب.

ردود الأفعال: اتهامات ونفي محسوب

في بيانه الصادر في يونيو/حزيران 2025، استخدم الجيش السوداني لهجة بالغة الحدة، وتحدث عن "تدخل مباشر لقوات خليفة حفتر"، واصفًا الهجوم بأنه "انتهاك صارخ للقانون الدولي"، وامتداد "للمؤامرة الدولية والإقليمية على السودان".

  • نقلة نوعية: يعكس هذا التحول شعورًا بالتهديد الخطير في لحظة حساسة من الصراع، وإعلانًا ضمنيًا بأن ساحة المعركة لم تعد محصورة داخل حدود السودان.

في المقابل، جاء الرد سريعًا عبر بيان القيادة العامة للجيش الوطني الليبي الذي يقوده حفتر، الذي رفض "الزج باسم القوات الليبية" في الصراع، مشيرًا إلى أن "دورياتنا تعرضت لاعتداءات متكررة من قوات سودانية أثناء تأمينها للحدود".

  • تبرير الاشتباكات: قدم رد حفتر نفيًا محسوبًا، إذ لم يقرّ بالتدخل، لكنه برّر اشتباك قواته بـ"الدفاع عن الحدود"، مما يُبقي الباب مفتوحًا أمام استمرار العمليات عبر وكلاء محليين دون تبنٍّ رسمي.

حسابات حفتر المعقدة

تكشف هذه التطورات عن طبيعة الحسابات التي تحكم سلوك المشير حفتر حيال السودان. فمن جهة، يتذرع بضرورة تأمين حدود ليبيا الجنوبية من تهريب السلاح وتسلل

المصدر: موقع الجزيرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *