مقدمة: وهم الإنجاز الفوري
في أعماق النفس البشرية، يكمن شغف لرؤية نتائج ملموسة لجهودنا. نرغب في أن تنعكس عباداتنا في صورة بركة ظاهرة، وأن تُستجاب دعواتنا على الفور. هذه الرغبة الفطرية في رؤية الثمرة، التي وصفها الله عز وجل في قوله: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف:13]، قد تتحول إلى داء إذا لم يتم توجيهها بحكمة وروية.
طبيعة الإنسان: بين العجلة والصبر
الإنسان بطبعه عجول، يريد أن يزرع اليوم ويحصد غدًا، كما قال تعالى: {وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولاً} [الإسراء من الآية:11]. ولكن، لله سبحانه وتعالى سنن في كونه وخلقه، وحكم عظيمة ومحكمة. بينما يمكن جني ثمار بعض الأعمال سريعًا، فإن معظم الأمور تحتاج إلى وقت وجهد متواصلين. الاستعجال في هذه الحالة لن يجدي نفعًا، بل قد يؤثر سلبًا على القلب ويثبط العزيمة.
متى يكون الاستعجال محمودًا؟
ليس كل استعجال مذمومًا. الاستعجال المحمود هو ذلك الذي ينبني على:
- تدبر الأمور: دراسة متأنية للمواقف والظروف.
- حسن الاختيار: اختيار أفضل السبل وأحسن الأدوات.
- وضوح الهدف: تحديد الغاية بوضوح بعد استشارة أهل الخبرة.
كما فعل موسى عليه السلام حين استعجل للقاء ربه: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى . قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:83-84].
الاستعجال المذموم: فورة النفس وغياب التدبر
أما الاستعجال المذموم، فهو الذي ينطلق من:
- فورة النفس: اندفاع غير مدروس.
- غياب التدبر: عدم التفكير في العواقب والمآلات.
- إهمال الاستشارة: عدم سؤال العلماء والخبراء.
في العبادات، حثنا الشرع الحنيف على الصبر والثبات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران من الآية:200]. وفي الحديث الشريف، "كان إذا عمل عملا أثبته."
أسباب الاستعجال: الخلقة وفورة الإيمان
قد ينشأ الاستعجال من طبيعة الإنسان: {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء من الآية:37]. وقد ينبع من حماس زائد لدى المبتدئين في طريق الإيمان، الذين يرون انتشار الباطل فيستعجلون التغيير دون تدبر، فيقعون في الخطأ.
التغيير المدروس: حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم
يقول الشيخ الدكتور سيد نوح رحمه الله: "ليس كل منكر تجب إزالته على الفور، وإنما ذلك مشروط بألا يؤدي إلى منكر أكبر منه."
السنة النبوية مليئة بالأمثلة على ذلك:
- الأصنام في الكعبة: بقيت الأصنام في الكعبة 21 عامًا قبل أن يزيلها النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، لأنه علم أن إزالتها قبل تهيئة النفوس سيزيد الأمر سوءًا.
- إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم: امتنع النبي صلى الله عليه وسلم عن إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم خوفًا من أن يثير ذلك فتنة بين حديثي العهد بالإسلام.
الخلاصة: الصبر والثبات مفتاح النجاح
الاستعجال قد يكون سمّاعة الشيطان التي توهمك بالإنجاز السريع، بينما هو في الحقيقة يحرق ثمار جهودك. الصبر والثبات والتدبر هي الأدوات الحقيقية لتحقيق النجاح في الدنيا والآخرة. كن راسخًا كالصخرة، وانتظر الفرج، فالعاقبة للمتقين والله مع الصابرين.
اترك تعليقاً