بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد معلم الخلق أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
إن طلب العلم من أشرف الأعمال وأجلّها، وهو السبيل إلى معرفة الله وطاعته، وسبب رفعة الإنسان في الدنيا والآخرة. وقد كان العلم على مر العصور قيمة نبيلة تسعى النفوس الطيبة إلى تحصيله، وإن من أجلّ الوسائل التي يسلكها الإنسان في طريق العلم، السفر والترحال لطلبه. وكما قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: “تَغَرَّبْ عَنِ الأَوْطَانِ فِي طَلَبِ العُلى.. وَسَافِرْ فَفِي الأَسْفَارِ خَمْسُ فَوَائِدِ”.
بل إن أول من نهج هذه الطريق هو سيدنا موسى عليه السلام، إذ رحل ليطلب العلم من العبد الصالح الخضر، كما ذكر الله تعالى في كتابه الكريم: “قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا” (الكهف: 66). فالسفر في طلب العلم كان ولا يزال طريقًا سلكه الأنبياء والعلماء والمصلحون، وإليك أيها القارئ بعضًا من فوائد هذا السفر المبارك:
1. الكتب لا تغني عن المعلم
إن العلم لا يؤخذ من الكتب وحدها، فالكتاب يُقرأ ولكن المعلم هو الذي يشرح ويفصّل ويهديك إلى جوهر المعلومة. فالعلم ليس مجرد حروف وأوراق، بل هو توجيه وإرشاد وممارسة. كما قيل: “من كان شيخه كتابه كان خطؤه أكثر من صوابه”. تصور أنك تريد أن تتعلم القرآن الكريم بالتجويد، هل يكفي أن تقرأ كتابًا لتُحسن القراءة؟ بالطبع لا، بل لابد من شيخ يُسمعك القرآن ويوجه لسانك لتقرأه كما أُنزل. وكذلك الحال في كل العلوم، فالكتب وحدها لا تكفي لتصبح عالمًا أو طبيبًا أو مهندسًا، بل تحتاج إلى معلم خبير يُنير لك الطريق.
2. اكتساب الأخلاق الحسنة
السفر في طلب العلم يُعرّضك للاحتكاك بالعلماء الصالحين، وهؤلاء العلماء لا يعلمونك العلم فقط، بل يُربونك على مكارم الأخلاق. فالعالم الذي يُحسن القول والفعل، ويظهر منه صدق في السلوك، يجعلك تتأثر بأخلاقه الحميدة. وهذا أمرٌ يندر تحصيله من خلال الكتب فقط. فكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، فإنك في رفقة العلماء تكتسب هذه الأخلاق وتتعلم منها.
3. الحصول على الخبرة والمعرفة
العلماء هم كنوز حية للخبرات المتراكمة عبر السنوات. السفر لطلب العلم يجعلك تتعلم من هذه الكنوز مباشرة، فتحصل على تجارب وخبرات لا يمكن اكتسابها إلا من خلال التفاعل المباشر مع العلماء. هذه التجارب تختصر لك الطريق، وتعطيك خلاصة سنوات طويلة من البحث والتدبر.
4. تكوين الصداقات الصالحة
من فوائد السفر أنه يُهيّئ لك فرصًا عظيمة للتعرف على أقران في طلب العلم، فتُكَوّن معهم روابط قوية وصافية مبنية على حب العلم والعمل. وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل”. إن هذه الصداقات تُعينك على مواصلة الطريق وتكون لك سندًا في مسيرتك العلمية والإيمانية.
5. اكتساب المهارات المتنوعة
السفر لا يعلمك العلم وحده، بل يعرضك لتجارب حياتية جديدة. عندما تنتقل إلى بيئات مختلفة وتتعامل مع ثقافات وأشخاص جدد، تكتسب مهارات متنوعة قد لا تجدها في بيئتك المعتادة. هذه المهارات لا تقتصر على المجال العلمي، بل تمتد لتشمل مهارات حياتية تفيدك في مسيرتك.
6. التفكر في عظمة الله
عندما تسافر، ترى خلق الله في أبهى صوره. ترى التنوع في الناس والطبيعة، وتدرك أن وراء هذا الكون خالقًا عظيمًا، هو الذي يرزق ويدبر ويخلق بغير حساب. في كل مشهد من مشاهد السفر، تجد نفسك تتأمل عظمة الله وتزداد إيمانًا ويقينًا بأنه لا إله إلا هو.
7. العلم الذي يؤخذ بصعوبة لا يُنسى بسهولة
إن العلم الذي يحصل عليه الإنسان بعد جهد وسفر ومشقة يترسخ في القلب والعقل. فالسفر وما يصاحبه من تحديات يُكسبك صبرًا وجلَدًا، ويجعل هذا العلم أثمن في نفسك. وكما قال بعض الحكماء: “ما يؤخذ بصعوبة لا يُنسى بسهولة”. فالعلم الذي يتحصل بالتعب يُصبح جزءًا من كيانك.
8. علو الهمة وقوة العزيمة
عندما تسافر لطلب العلم، فإنك تحتك بأشخاص ذوي همم عالية، عاشوا التجارب الصعبة، وواجهوا التحديات للوصول إلى ما هم عليه من علم ومعرفة. هذا الاختلاط بأصحاب الهمم العالية يعزز همتك، ويُلهب عزيمتك للسير على نفس الطريق.
9. معرفة معادن الرجال
في طريقك لطلب العلم، ستلتقي بأنواع مختلفة من الناس. بعضهم طيب وذو خلق رفيع، وبعضهم قد يكون أقل من ذلك. السفر يُمكّنك من التعرف على معادن الرجال، وتكتسب من هذه التجارب حكمة في التعامل مع الناس وفهم طبيعتهم.
10. الأجواء الإيمانية
طلب العلم لا ينفصل عن روح الإيمان، خاصة عندما تكون في صحبة طيبة. السفر مع رفقة صالحة يخلق أجواء إيمانية تملأ القلوب بالسكينة والطمأنينة، وتعينك على طاعة الله وترك الذنوب. هذه الصحبة الصالحة تُذكرك بالله دائمًا، فتكون عونًا لك على الثبات.
11. الحصول على العلم من مصادره الصحيحة
من أعظم فوائد السفر لطلب العلم أنك تتعلم من أهل العلم المتخصصين في مجالاتهم. فعندما تسافر لتعلم الفقه من عالم فقيه، فإنك تتلقى علمًا صافيًا من مصادره الصحيحة، وتتعلم كيف تستنبط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة. هذا النوع من التعليم لا يُعوض، وهو من أفضل ما يمكن أن تحصل عليه في رحلتك العلمية.
الخاتمة
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علمًا وتقوى.
اترك تعليقاً