في عالم الأدب المعاصر الذي يسعى لفهم تعقيدات الثورة الإيرانية، يبرز كتاب "عباءة النبي: الدين والسياسة في إيران" للمؤرخ روي متحدة كعمل فريد يتجاوز التحليل السياسي السطحي ليغوص في أعماق الروح الإيرانية.
سيرة ذاتية متخيلة: نافذة على التاريخ والفكر الإيراني
بأسلوب روائي آسر، يقدم متحدة سيرة ذاتية متخيلة لشخصية "علي هاشمي"، طالب العلم الشيعي. من خلال رحلة علي الشخصية، يرسم الكتاب لوحة تاريخية وفكرية غنية لإيران، كاشفًا عن الجذور الثقافية والدينية العميقة التي غذت ثورة عام 1979. وقد نال الكتاب استحسانًا نقديًا واسعًا، واعتُبر علامة فارقة في تقديم صورة إنسانية عميقة لإيران، بعيدًا عن الصور النمطية التي اختزلت المشهد الإيراني في دائرة العنف والتعصب.
روي متحدة: مؤرخ بأسلوب روائي
روي برفيز متحدة (1940-2024) كان مؤرخًا أمريكيًا مرموقًا من أصل إيراني، وأحد أبرز المتخصصين في التاريخ الإسلامي والثقافة الإيرانية. تخرّج في جامعة هارفارد وعمل أستاذًا في جامعتي برنستون وهارفارد، حيث شغل منصب مدير مركز دراسات الشرق الأوسط. تميّز متحدة بقدرته على السرد التاريخي بأسلوب أدبي شائق دون التخلي عن الدقة الأكاديمية.
فسيفساء إيرانية: مزيج من الشخصي والاجتماعي والوطني
ينسج متحدة كتابه عبر مستويات مترابطة تمزج ببراعة بين الشخصي والاجتماعي والوطني، ليقدم للقارئ فهمًا شاملاً للمجتمع الإيراني. يتميز الكتاب عن الدراسات السياسية البحتة بكونه سردًا حضاريًا شاملاً يربط الفكر بالتاريخ بالمجتمع، ويقدم إيران كلوحة فسيفسائية متعددة الأبعاد.
علي هاشمي: مرآة تعكس تحولات المجتمع الإيراني
تدور أحداث القصة حول "علي هاشمي"، الشاب القمي المنتمي إلى سلالة النبي ﷺ، والذي ينشأ في كنف عائلة متدينة ويتلقى تعليمه في الحوزة العلمية ليصبح "ملا". يتابع القارئ مسار تكوينه الفكري والروحي، ويشاركه مشاعره المتضاربة بين الغضب والابتهاج، والشك والإيمان. تهتز قناعاته حين يقرأ عن فظائع الاستعمار الفرنسي في الجزائر، ثم يخوض تجربة "عرفانية" عميقة تقوده إلى رؤيا صوفية تتجلى فيها "الأنوار" في كل ما حوله، في إشارة إلى مكانة التصوف الخاصة في الثقافة الإيرانية رغم تحفظ المؤسسة الدينية الرسمية.
تتقاطع رحلة هاشمي مع الاضطرابات السياسية، فيسجن لفترة وجيزة، حيث يلامس اليأس قبل أن يجدد إيمانه. ومع انتصار الثورة، يمتزج فخره برؤية راية الإسلام الخضراء بقلق وجودي حول مستقبل بلاده. شخصية علي المركبة، التي تعيش التوتر بين التقوى والشك، والتقليد والحداثة، تصبح مرآة صافية تعكس تحولات المجتمع الإيراني في القرن العشرين.
عالم الحوزات العلمية: نظرة من الداخل
يفتح الكتاب نافذة واسعة على عالم الحوزات العلمية وطرق التعليم التقليدية في إيران. يرسم المؤلف صورة حية لمدينة قم كمركز مقدس للتعليم الشيعي، حيث يتعلم هاشمي النحو والبلاغة والمنطق على أيدي الملالي التقليديين، في نظام تعليمي يشبه في جوهره مناهج أوروبا في القرون الوسطى. يقدم الكتاب أمثلة على التقوى الشخصية لرجال الدين، مثل الشيخ مرعشي (أستاذ هاشمي) الذي كان يستيقظ قبل الفجر بساعتين ليكرر دعاء "استغفر الله" 300 مرة، مما يمنح القارئ لمحة عن الورع والانضباط في حياة الحوزة. كما يكشف الكتاب عن "منطقة رمادية" من التسامح، حيث تعايش الشك الفكري سرا مع الإيمان، وبقيت تيارات كالتصوف والتشيع الباطني بهدوء داخل مجتمع شديد المحافظة.
الشعر الفارسي: موئل وجداني للإيرانيين
يستكشف الكتاب دور التراث الفارسي، وخصوصا الشعر، باعتباره الموئل الوجداني للإيرانيين، ومجالهم للتعبير عن عشقهم للغموض والمجاز بعيدا عن رقابة السلطات. يستشهد المؤلف بأبيات لكبار شعراء فارس مثل حافظ وسعدي وفردوسي، مما يضفي على السرد عمقا أدبيا. يرى متحدة أن "حب الغموض" جوهر الثقافة الإيرانية، وهو ما يتجلى في قدرتهم على التعايش مع التناقضات، مثل الجمع بين الفخر بالتاريخ الفارسي القديم (كالبطل الأسطوري رستم) والهوية الإسلامية الشيعية.
تاريخ إيران الحديث: ازدواجية ثقافية وصعود المؤسسة الدينية
يستعرض الكتاب تاريخ إيران الحديث، وكيف أدى دخول التعليم الغربي في عهد الشاه إلى إيجاد ازدواجية ثقافية لدى الشباب الإيراني. وجد هاشمي نفسه ممزقا بين عالمي الحوزة والجامعة العلمانية. ثم ينتقل السرد لتحليل المسار التاريخي لنشاط المؤسسة الدينية سياسيا. فبعد أن ظل العلماء على هامش السلطة، برز دورهم في محطات مفصلية كانتفاضة التبغ (عام 1891) والثورة الدستورية (عام 1906).
غير أن التحول الأكبر جاء مع سياسات التحديث القسرية لرضا شاه بهلوي وابنه، والتي استهدفت تقليص نفوذ المؤسسة الدينية وتفكيك "منطقة الغموض" التقليدية. وهذه السياسات، التي شملت إلغاء المحاكم الشرعية وفرض القوانين المدنية، أجبرت الكثيرين على اتخاذ موقف واضح. ونتيجة لتآكل شرعية نظام الشاه بسبب الاستبداد والتبعية للأجنبي، استعاد رجال الدين دورهم في قيادة المعارضة، ليصبحوا أقرب إلى هموم الناس من النخبة الحاكمة.
الخميني و"ولاية الفقيه": تحول العمائم إلى أداة للحكم السياسي
يبرز الكتاب كيف استثمر الإمام الخميني هذا الغضب الشعبي، خاصة بعد قمع طلاب الحوزة في قم (عام 1963) ومنح الحصانة القضائية للأميركيين (عام 1964) ليطرح نظرية "ولاية الفقيه" كبديل سياسي إسلامي. ومع سقوط الشاه، اضطر الإيرانيون إلى الخروج من منطقة الالتباس الثقافي واتخاذ قرار حاسم، لتتحول العمائم من رمز للإرشاد الروحي إلى أداة للحكم السياسي. ورغم أن الثورة حققت شعارها بطرد الشاه، يختم متحدة كتابه بنبرة قلقة، مشيرا إلى أن التشدد الأيديولوجي الذي أعقب الثورة بات يهدد بتقويض إرث التسامح والتنوع الذي ميز الثقافة الإيرانية لقرون.
جذور بعيدة في الماضي: سياق تاريخي وفكري للثورة الإيرانية
على الرغم من أن القصة المحورية للكتاب تدور في منتصف القرن العشرين، فإن المؤلف يربط أحداثها ومفاهيمها بجذور بعيدة في الماضي. فهو يستحضر مثلا شخصيات فكرية إسلامية كالفيلسوف ابن سينا (القرن الـ11) وصولا إلى شخصيات سياسية حديثة كالدكتور مصدق والمفكر علي شريعتي بالقرن العشرين، وذلك ليظهر امتداد خيط الفكر الإصلاحي والديني عبر العصور، معتبرا أن الثورة الإيرانية لم تكن حدثا منعزلا، بل جاءت تتويجا لتطور تاريخي طويل شمل اجتهادات فقهية وصراعات اجتماعية وتأثيرات استعمارية.
يناقش الكتاب مثلا الإرث الذي تركه جمال الدين الأفغاني أواخر القرن الـ19 في الدعوة إلى نهضة إسلامية ضد الاستعمار، وتأثير حركة التنباك (احتجاج عام 1891) التي قادها المراجع ضد هيمنة الأجانب اقتصاديا. كما يعرج على الثورة الدستورية عام 1906 بوصفها أول محاولة لإقامة حكم حديث مع الحفاظ على دور للدين، والتي شهدت أيضا انقساما بين تيار علماء الدين المحافظين والتيار الحداثي. وتعطي هذه المحطات التاريخية وغيرها القارئَ الخلفية اللازمة لفهم شعارات الثورة عام
اترك تعليقاً