تونس اليوم على أعتاب مرحلة مصيرية، تتجاوز مجرد الأزمات الاقتصادية والسياسية العابرة، نحو تهديد وجودي شامل. الواقع الحالي لم يعد مستداماً، والسلطة عاجزة عن تقديم حلول جذرية، والمجتمع يئن تحت وطأة الإحباط والانتظار الطويل.
هذه اللحظة التاريخية تتشابه في جوهرها مع لحظات مفصلية سبقت تحولات كبرى، مثل:
- نهاية دكتاتورية سالازار في البرتغال (1974): عبر "ثورة القرنفل" العسكرية.
- نهاية دكتاتورية فرانكو في إسبانيا (1977): عبر "اتفاق مونكلوا" السياسي.
- تفكك النظام العنصري في جنوب أفريقيا (التسعينيات): عبر مسار تفاوضي سلمي.
الأزمة في تونس ليست مجرد أرقام اقتصادية مقلقة، بل تتعداها إلى تآكل المؤسسات، وتفكك الدولة في صمت، وتحول الأجهزة الصلبة إلى رهائن لسلطة فاقدة للرؤية، وسط تآكل الثقة وانكماش الأمل.
الأرقام تتحدث بوضوح:
- الدين العام تجاوز 100٪ من الناتج المحلي الإجمالي.
- احتياطي العملة الصعبة لا يكفي سوى ثلاثة أشهر من التوريد.
- البطالة تضرب 38٪ من خريجي الجامعات.
- هجرة الكفاءات: آلاف الأطباء والمهندسين يغادرون البلاد سنوياً، بالإضافة إلى عشرات آلاف الشباب الذين يغامرون بحياتهم في البحر بحثاً عن مستقبل أفضل.
التحدي الوجودي:
تونس تواجه تهديداً وجودياً شاملاً يُنذر بسيناريو انهيار بطيء، مشابه لما حدث في فنزويلا أو لبنان.
نحو حل وطني شامل
في مواجهة هذا الانهيار المتعدد الأبعاد، لا يمكن أن يأتي الحل من طرف واحد أو مبادرة معزولة. بل يتطلب الأمر توافقاً وطنياً واسعاً يعيد تأسيس العلاقة بين الدولة والمجتمع، ويعيد توزيع الأدوار والمسؤوليات على قاعدة إنقاذ البلاد لا تقاسم الغنائم.
"اتفاق مونكلوا" الإسباني: نموذج ملهم
تبرز تجربة "اتفاق مونكلوا" في إسبانيا عام 1977 كنموذج ملهم لما تحتاجه تونس اليوم. في لحظة انتقالية حرجة، اجتمعت الحكومة والمعارضة والنقابات العمالية في قصر مونكلوا للتوقيع على اتفاق تاريخي يهدف إلى إنقاذ الدولة وتفادي الفوضى.
شمل الاتفاق:
- إصلاحات اقتصادية صارمة: إصلاحات مالية وضريبية، وإجراءات لخفض العجز الحكومي.
- إصلاحات اجتماعية: تعزيز الحريات، وإصلاح الضمان الاجتماعي.
- خريطة طريق سياسية: لصياغة دستور ديمقراطي جديد.
- عفو عام: عن السجناء السياسيين.
الرسالة الأعمق في اتفاق مونكلوا: لا أحد قادر بمفرده على إنقاذ الوطن. الإنقاذ لا يكون إلا بتنازلات متبادلة، وشجاعة جماعية للانتقال من منطق الغلبة إلى منطق التعايش الوطني.
"ثورة القرنفل" البرتغالية: خيار بديل
في حال استمر الانسداد وتعذر التوافق، فقد يلجأ البعض إلى استحضار خيار بديل: "ثورة القرنفل" في البرتغال سنة 1974.
في تلك التجربة، قررت مجموعة من الضباط الشباب داخل القوات المسلحة إنهاء عبث الحكم واستعادة كرامة الدولة. ونزل المواطنون إلى الشوارع لدعمهم، وتحولت البنادق من أدوات قمع إلى أدوات حماية للانتقال الديمقراطي.
لكن هذا النموذج يبقى استثناءً تاريخياً ولا يمكن اعتباره حلاً قابلاً للتعميم.
الدرس المستفاد: استمرار تعنت النخبة الحاكمة وعجزها عن الإنقاذ قد يدفع أجهزة الدولة إلى إنقاذ ذاتها من الداخل، وتحمل مسؤوليتها التاريخية؛ حفاظاً على الاستقرار. ومع ذلك، فإن الحل الأمثل يبقى دائماً في الإصلاح السلمي والمبادرات المدنية.
بين "مونكلوا" و"القرنفل": فرصة تونس
تونس اليوم أمام خيارين:
- مسار توافقي شبيه بمونكلوا: يعيد بناء الثقة بين الدولة والمجتمع عبر إصلاحات حقيقية.
- مخاطر الانزلاق إلى فراغ سياسي: ووضع تتآكل فيه السلطة دون بديل، مما قد يدفع بعض الأطراف إلى البحث عن حلول غير ديمقراطية.
لتجنب السيناريوهات الخطيرة، يمكن اعتماد خريطة طريق إصلاحية مستلهمة من نموذج "مونكلوا"، لكنها مكيفة مع الواقع التونسي، تقوم على سبع محطات متكاملة:
- حوار وطني شامل: مسار مؤسسي حقيقي يُبنى على أسس الاحترام المتبادل.
- مشاركة واسعة: يشارك فيه من يملكون الشرعية السياسية والاجتماعية.
- إصلاحات اقتصادية عاجلة: تعيد التوازن بين السوق المبادرة والدولة العادلة المعدِّلة.
- إصلاح القضاء: إرساء مجلس أعلى للقضاء قادر على تطهير السلطة القضائية ورفع المظالم.
- فتح المجال العام: رفع القيود عن وسائل الإعلام وإعادة الأحزاب إلى الفضاء العام.
- إصلاح أجهزة الدولة: جعلها حامية للجمهورية لا خادمة للأفراد.
- تحقيق العدالة الجبائية: لتوفير موارد إضافية للدولة وتحقيق العدالة بين المواطنين.
بهذه الرؤية المتكاملة، يمكن لتونس أن تتجنب خيارات اليأس، وتبني طريقاً ثالثاً بين الانهيار والانغلاق.
نداء إلى الضمير الوطني
اللحظة التاريخية لا تختبر فقط النخب السياسية، بل تمتحن كذلك الأجهزة السيادية. على الأمنيين والعسكريين والإداريين أن يسألوا أنفسهم: هل ولاؤهم لسلطة فردية مؤقتة، أم لدولة دائمة؟ هل واجبهم حماية نظام يضعفهم ويزج بهم في معارك سياسية، أم حماية مؤسسة الدولة التي تمنحهم شرعيتهم وكرامتهم؟
تونس لا تحتاج إلى انقلاب، بل تحتاج إلى إدارة عقلانية من داخل الدولة تدفع نحو التغيير بدل مقاومته، نحو الإصلاح بدل الانهيار، ونحو شراكة وطنية بدل المواجهة.
"يبدو الأمر مستحيلاً دائماً.. حتى يُنجز"
قد يبدو التوافق بعيد المنال، لكن موازين القوى في تونس ما تزال قابلة لإعادة التشكيل، وما تزال هناك فسحة حقيقية للتحرك نحو مخرج وطني سلمي وآمن.
تونس أمام فرصة تاريخية لتدارك مسار الانحدار، من خلال الالتقاء حول الوطن لا حول المواقع، وبناء مشروع إنقاذ جماعي ينهض من رحم الأزمة.
فليكن التدارك إرادياً قبل أن يُصبح اضطرارياً، والمسؤولية الآن ليست فقط على السلطة، بل على جميع مكونات الوطن.
اترك تعليقاً