الحياة، شئنا أم أبينا، هي رحلة مليئة بالتحديات والاختبارات. إنها طبيعة الدنيا، تتأرجح بين الفرح والحزن، بين العطاء والأخذ. تذكر دائمًا قول الله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 186]، وقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة: 155]. هذه الآيات تذكرنا بأن الابتلاء جزء لا يتجزأ من الحياة.
في مواجهة هذه التحديات، لا يوجد أمامنا سوى خيارين: الرضا بقضاء الله وقدره، أو التسخط والاعتراض. المؤمن الحق يختار الرضا، مدركًا حكمة الله في كل ما يحدث. أما الخاسر، فيختار السخط، ويزيد من معاناته.
الرضا والسخط: طريقان مختلفان
دعونا نستعرض بإيجاز ما ينتظر الراضين وما يؤول إليه حال الساخطين، وما هي الفروق الجوهرية بينهما:
1. الرضا يجلب الرضا، والسخط يجلب السخط
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط» (رواه الترمذي، وحسنه الألباني). فالرضا عن الله يجلب رضا الله، وكما قال تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119]. أليس {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]؟
من مظاهر رضا الله عن الراضين في الآخرة، أن يصب عليهم الأجر صبًا جزيلًا، حتى يتمنى أهل العافية لو أنهم ابتلوا وصبروا. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض» (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
2. الرضا علامة العقل، والسخط دليل الحمق
الأقدار مكتوبة ومقدرة، والتسخط لن يغير فيها شيئًا. فلماذا نضيع طاقتنا في الاعتراض؟ في صحيح مسلم: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة». قال عبد الله بن الزبير:
هون عليك فإن الأمور ** بكف الإله مقاديرهـــــــا
فليس يآتيك منهيهــــا ** ولا قاصر عنك مأمورها
3. الرضا: جنة العابدين ومرفأ الأوابين
الرضا هو طريق الصالحين، وهو ما نسعى إليه جميعًا. عروة بن الزبير، مثال للرضا واليقين، فقد فقد ابنه ورجله في نفس الوقت، ولكنه لم يزد على قوله: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف: 62].
سعد بن أبي وقاص، مثال آخر للصبر والرضا، فعندما فقد بصره، كان الناس يأتون إليه ليدعو لهم، وعندما سأله أحدهم لماذا لا يدعو لنفسه ليرد الله عليه بصره، تبسم وقال: "يا بني، قضاء الله أحب إلي من بصري".
الفرج بعد الشدة
مهما اشتدت الكرب والابتلاءات، فإن الفرج قادم لا محالة، إذا خلصت النية وصدق اللجوء إلى الله. ألم يقل الله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5-6]؟
الصبر والرضا: وجهان لعملة واحدة
الرضا لا يتحقق إلا بعد الصبر، فهو منزلة أعلى من الصبر. والصبر الحقيقي يكون عند الصدمة الأولى، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى» (متفق عليه).
خلاصة القول: الرضا هو مفتاح السعادة الحقيقية في عالم مليء بالتحديات. فلنتعلم كيف نرضى بقضاء الله وقدره، ونسعى إلى أن نكون من الراضين المرضيين.
اترك تعليقاً