في عصر تتلاطم فيه أمواج الأفكار وتتنازع فيه الرؤى، يجد المرء نفسه أمام سيل جارف من الأطروحات المتناقضة، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. وسط هذه المعركة الفكرية المحتدمة، كيف يتصرف الجمهور المشاهد؟ وإلى أي معسكر ينحاز؟
تنبيهات للمتابع الواعي:
إليك بعض التنبيهات التي تساعدك على التعامل مع هذه الحرب الفكرية بوعي ومسؤولية:
1. محكمات الشريعة: خطوط حمراء لا تقبل الجدل
هناك أمور لا يجوز للمسلم أن يجعلها موضع جدل وتداول للرأي، ألا وهي محكمات الشريعة وقطعيات الأدلة. هذه الأمور واضحة ومعروفة لأهل العلم، ولكنها قد تلتبس على غيرهم. الخلاف في هذه الأمور غالبًا ما يكون ناتجًا عن إعراض عن الحق أو سلوك طرق غير موصلة إليه. فالحق في هذه المسائل أوضح وأقرب، وتضييعه أشد إثمًا.
2. أهل الاختصاص: مرجع الأمور الدقيقة
في كل فن من الفنون، مرجع الأمور الدقيقة هم علماء ذلك الفن. لا يمكن أن يكون هؤلاء العلماء، على اختلاف مشاربهم وتنوع مداركهم، مخطئين جميعًا. فإذا خالفتهم برأيك في أمر ما، ورأيت جماعتهم على رأي واحد غير رأيك، فاتهم رأيك ولا تتهمهم. فالهوى يعمي ويصم، ورأيك أقرب إلى الهوى من رأيهم، وأبعد عن العلمية من مناهجهم الدقيقة.
3. الحق الظاهر والمصلحة الشرعية
هناك مسائل مطروحة للنقاش ليست من المسائل القطعية، ولكن الحق فيها ظاهر، والرأي الآخر فيها له وجه، إلا أنه أبعد عن الظهور وأقل تحقيقًا للمصلحة الشرعية. من المتصور أن يجتهد البعض ويؤديهم اجتهادهم إلى ذلك الرأي الآخر، ومن الطبيعي أن يكون القائل بهذا الرأي والمقتنع به أقل من القائل بالرأي الآخر. ولكن أن تتحزب مجموعات ويتنادوا بصوابية الرأي المهجور، ثم تجده مؤديًا إلى موافقة طريقة الحضارة الغربية في التفكير والنظر إلى المسائل، في الوقت الذي يأباه أكثر أهل العلم الراسخين، فاعلم أن ذلك من التداعي للهوى لا للعلم، وأنه من باب تقييم المصالح والمحاسن برأي "الآخر"، ثم دفع المفاسد والقبائح التي يراها "الآخر" كذلك عن النفس.
4. الإعراض عن الجدال ليس حلًا
طائفة من الناس تعرض عن كل ذلك اشتغالًا بدين أو دنيا. وهذا ممدوح من جهة الاشتغال بما ينفع عما لا ينفع، ومن جهة عدد من النصوص الشرعية الآمرة بالإعراض عن الشبهات وعن اللغو. ولكن هؤلاء الناس لا يجوز أن يكونوا مجموع الأمة، لأنهم مع تباعدهم عن العراك الفكري إيجابيه وسلبيه، إلا أنهم ليسوا بمعزل عن التعرض لسهامه، أو تعرض أهليهم لذلك. فكم في الناس من منغلق على نفسه، مناوئ للصالح والطالح من الأطروحات، من انفتحت عليه فجأة فغرق في شبر منها، وخطف بالكلية إلى الضفة الأخرى. وهؤلاء الناس كذلك لا يندفع بهم فرض الكفاية عن الأمة في مدافعة الباطل والمجاهدة بالقرآن.
5. الحياد السلبي: وهم الثقافة أم ضعف اليقين؟
طائفة أخرى لزمت الحياد، ووقفت وسطًا بين شتى المذاهب، تسمع من ذا وذا، ويعجبها رأي ذا وأصالة ذاك وحجة هذا، أو بريق مقولة الآخر. يظنون ذلك من الثقافة، ويؤزهم على الاستمرار على هذا النهج مقولات من نحو: عدم احتكار الحقيقة، وأنه لا حق مطلق، وحرية كل طرف في التعبير عن آرائه، واحتمال صوابية تلكم المقولات.
وحين ينظر هؤلاء الإخوة إلى "الآخر" بهذه النظرة، ويطالبوننا بها، فياليتهم يطالبون "الآخر" بها كذلك. فهذان طرفان لكل منهما طريقة ومذهب، فما مذهبك أنت؟ وما هي طريقتك؟
إن الحياد بين الكفر والإيمان، والتردد بين صوابية أهل الإسلام أو أهل الكتاب، التردد الأعمى بين معسكر الشرق ومعسكر الغرب، الليبرالية والسلفية، العلمانية والإسلامية، الديمقراطية والشرعية، الشيعة والسنة، البدعة والاتباع، الظالم والمظلوم.. إلخ هذه الثنائيات؛ ليس بصواب، ولا هو دليل عمق فكري، ولا يمتلك صاحبه اليقين الراسخ بحقائق الأمور. فهو يتمظهر بالثقافة والحياد، والحياد بعد ظهور الحق توسُّط بين الحق والباطل، وهو مذموم.
6. النصرة المشروطة: تلون المبادئ
لبعض الناس في نصرة الحق طريقة عجيبة، فهم أبدًا مع المنتصر، ولديهم قدرة عجيبة على أن يبصروا النقطة السوداء في الثوب الأبيض، متى ما كان ذلك يحقق لهم رضا من يريدون رضاه. وهم كذلك يبصرون النقطة البيضاء في الثوب الأسود، ويدعون أن هذا مقتضى الإنصاف. فاحذر من هذه المسالك، فإنها لا تزيد أصحابها إلا قبحًا، وهو نوع من التأكل بالمبادئ، والعياذ بالله.
7. الشيطان الأخرس: شره أقل، ولكن…
الشيطان الأخرس أضعف وأقل شرًا من الشيطان الناطق، وبعض الخرس عن الحق يسكتون دهرًا، ثم ينطقون فجرًا، وحينئذ يحسن أن تقول: ليته سكت.
8. الثبات على الحق: قوة اليقين
أهل العلم والعدل والمعرفة العميقة بالذات وبالآخر من أهل الدين الحق لا يزيدهم مخالفة المخالف لهم وهزؤه بمبادئهم إلا إيمانًا وتثبيتًا. انظر كيف جعل في نفس الأمر الذي فيه الفتنة على الكافرين زيادة في إيمان المؤمنين، واطمئنانًا لمن كان منصفًا ممن نزل عليهم الكتاب من قبله.
إن أهل الإنصاف المزعوم، والتوسط في غير محله مداهنون، يظنون أن أسلوب المجاملة والتملق نافع في كل حين، وهو دليل ضعف في شخصياتهم، وضمور في يقينهم. وهذا الداء قد استشرى في هذا الزمان، ووصل إلى فئام كثيرة من الناس. فتفقد نفسك يا أخي، فلعلك تخلصها من بعض رواسب هذا المرض العضال، سلمك الله من كل شر.
اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون.. اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
اترك تعليقاً