انهيار القيم الأساسية: مقدمة نحو الاستبداد
إن الصراع الذي نشهده اليوم ليس مجرد مواجهة بين "الدولة العميقة" و"اليسار المتطرف"، بل هو حرب ضروس ضد الحقيقة، وسيادة القانون، والشفافية، والمساءلة. هذه القيم، التي لا يمكن تحقيقها إلا في ظل صحافة حرة، وحق في المعارضة، وثقافة حية، وفصل حقيقي للسلطات، تتعرض لهجوم ممنهج من قبل قوى تسعى إلى تقويض أسس المجتمع المفتوح.
تآكل المؤسسات: تمهيد الطريق للديكتاتورية
قبل وصول دونالد ترامب إلى السلطة، كانت المؤسسات الأساسية للمجتمع الأمريكي تعاني من تآكل تدريجي. الصحافة، الجامعات، الأحزاب السياسية، وحتى القضاء، فقدت الكثير من استقلاليتها ونزاهتها، مما جعلها أهدافًا سهلة للاختراق والتلاعب. هذه المؤسسات، التي كان من المفترض أن تحمي قيم الديمقراطية، باعت نفسها للمصالح الخاصة، مما أدى إلى فقدان الثقة بها وتقويض دورها في حماية المجتمع.
الفاشية وليدة الليبرالية المفلسة
الفاشية لا تنشأ من فراغ، بل هي نتيجة حتمية لليبرالية المفلسة التي تخلت عن دورها في حماية الديمقراطية ومصالح الطبقة العاملة. بدلاً من تخفيف حدة التفاوت الطبقي والإمبراطورية من خلال الإصلاحات، أصبحت الليبرالية تلوم ضحاياها، مما أدى إلى تفاقم الغضب والاستياء الذي تستغله الحركات الشمولية.
الصحافة: من حارس الحقيقة إلى بوق للسلطة
تحولت وسائل الإعلام من حارس للحقيقة إلى أداة لخدمة السلطة ونشر الأكاذيب والدعاية. ساهمت في تبرير الحروب، وتمجيد وول ستريت، وتشويه صورة الفلسطينيين والمسلمين. بدلاً من تغطية معاناة الفقراء والمهمشين، تركز وسائل الإعلام على خدمة مصالح مموليها من الشركات.
الجامعات: مصانع للشهادات أم مراكز للفكر الحر؟
تحولت الجامعات إلى شركات تهدف إلى تحقيق الربح، حيث يحصل الإداريون والمدربون الرياضيون على رواتب فلكية، بينما يعاني أعضاء هيئة التدريس من الفقر وعدم الاستقرار الوظيفي. هذا الوضع يقوض حرية التعبير ويمنع الأساتذة من طرح أسئلة محرجة حول القضايا الهامة، خوفًا من فقدان وظائفهم.
فقدان البوصلة الأخلاقية: عصر التوافق
كما كتب إرفينغ هاو، فإن "فكرة المهنة الفكرية – فكرة أن تكون الحياة مكرّسة لقيم لا يمكن تحقيقها في حضارة تجارية – قد فقدت بريقها تدريجيًا." المثقفون الذين يربطون أنفسهم بمقاعد السلطة يتخلون عن حرية التعبير ولا يكتسبون أي وزن سياسي حقيقي.
النيوليبرالية: وصفة للتدمير
الحزبان الحاكمان في أمريكا تبنيا سياسات نيوليبرالية أدت إلى تجريد البلاد من صناعتها، وفرض إجراءات تقشف قاسية، وتفكيك قوانين حماية العمال، وتعزيز احتكار الشركات وتفاوت الثروات إلى مستويات تاريخية.
الثقافة: خط الدفاع الأخير
الثقافة في الديمقراطية السليمة هي راديكالية وتحويلية. تعطي كلمات لما في داخلنا، وتمنحنا القدرة على الإحساس والتعاطف مع المظلومين، وتكشف ما يحدث حولنا. الحرب على الثقافة والفن والفكر الحر تهدف إلى منعنا من رؤية "الهاوية"، ومن محاولة جعل العالم إنسانيًا.
الاستبداد المقلوب: وهم الديمقراطية
النظام السياسي في أمريكا اليوم هو "استبداد مقلوب"، يحتفظ بمظاهر الديمقراطية ولكنه يخضع لسيطرة الشركات التي تستغل القانون الدولي لنهب العالم النامي والإطاحة بالحكومات المقاومة. الربح أولاً، لا العدالة.
من الاستبداد المقلوب إلى الدكتاتورية المباشرة
نسف إدارة ترامب للمؤسسات المتعفنة يهدد بتحويل النظام من "الاستبداد المقلوب" إلى "الدكتاتورية المباشرة". ديستوبيا الشركات قادمة، تشبه في قسوتها نموذج الصين: رقابة شاملة، قيادة غير منتخبة، سحق النقابات، ومراقبة جماعية.
عبادة القائد: سمة الأنظمة الشمولية
في قلب المشروع الاستبدادي تكمن عبادة القائد. ترامب يسعى إلى تعزيز صورته كمنقذ للبلاد من خلال تملق مساعديه وإطلاق مشاريع تهدف إلى تمجيده.
النهاية قريبة: الخونة بيننا
مساعدو ترامب يطفئون آخر شموع المجتمع الحر، وينجزون ما بدأه المليارديرات من تدمير. هذه ليست بداية، بل نهاية. لقد حصل ترامب على الكثير من المساعدة. وهناك كلمة واحدة تصف من فعلوا هذا بنا: خونة.
خاتمة: هل من أمل؟
على الرغم من الصورة القاتمة التي يرسمها هذا التحليل، يبقى الأمل في إمكانية استعادة القيم الديمقراطية وبناء مجتمع أكثر عدلاً وإنصافًا. يتطلب ذلك صحوة ضمير جماعية، وتكاتف الجهود لمقاومة قوى الاستبداد، وإعادة بناء المؤسسات على أسس من الشفافية والمساءلة.
اترك تعليقاً