مقدمة: الجزائر في قبضة الاستعمار وظلام الجهل
في تلك الحقبة المظلمة من تاريخ الجزائر، كان الاستعمار الفرنسي يلقي بظلاله القاتمة على كل جوانب الحياة. لم يكن مجرد تصور جزائر حرة مستقرة يخطر ببال أحد، بل كان ضربًا من الخيال. الشاعر محمد الأمين العمودي يصف تلك الفترة بدقة: "حياة بلا غاية ولا أمل… حياة من لا يأسف على أمسه، ولا يغبط على يومه، ولا يثق في غده."
لم يكن الوضع العلمي بأفضل حال. الزعيم المصري محمد فريد بك، بعد زيارته للجزائر، عبّر عن صدمته قائلًا: "أصبحت البلاد وليس فيها من المدرسين بالجوامع إلا ما يعد على الأصابع… وكادت تندرس اللغة العربية الفصحى." كانت الجزائر في أمس الحاجة إلى من يوقظها من سباتها العميق.
"دفن البذور": استراتيجية ابن باديس للإصلاح
في هذا السياق، برز الشيخ عبد الحميد بن باديس كشخصية محورية، مؤمنًا باستراتيجية "دفن البذور". هذه الاستراتيجية تعني العمل الدؤوب على ترسيخ أسس الخير، دون انتظار نتائج فورية. إنها رؤية بعيدة المدى تتطلب صبرًا وثباتًا وإيمانًا عميقًا بقوة التغيير التدريجي.
التعليم: النواة الأولى للنهضة
كان التعليم حجر الزاوية في مشروع ابن باديس الإصلاحي. فور وصوله إلى قسنطينة، انخرط في تعليم الأطفال في الكتاتيب، خاصة في كتاب سيدي فتح الله.
اتفاق المدينة المنورة: التركيز على الكيف لا الكم
خلال لقائه بالشيخ البشير الإبراهيمي في المدينة المنورة، اتفقا على منهجية تركز على بناء "فكرة صحيحة" لدى النشء، حتى لو كان ذلك على حساب التوسع في العلوم. كانت هذه التجربة بمثابة إعداد "جيش" من التلاميذ المؤمنين بقضيتهم.
المسجد الأخضر: منبر للعلم والإحسان
حوّل ابن باديس المسجد الأخضر إلى مركز إشعاع علمي واجتماعي. لم يقتصر دوره على تقديم الدروس، بل امتد ليشمل توفير المسكن والطعام والدواء للطلاب. كان يستقبلهم بحفاوة عند وصولهم ويودعهم بنفس الحفاوة عند انتهاء العام الدراسي، بل كان يوقظهم لصلاة الفجر بنفسه.
تعليم المرأة: رؤية متقدمة
لم يقتصر مشروع ابن باديس التعليمي على الذكور فقط، بل دعا إلى تعليم الفتيات وإلحاقهن بجمعيات التعليم، مؤكدًا أن العلم ليس حكرًا على الرجال.
الإعلام: المرحلة الثانية من البناء
بعد ترسيخ الأساس التعليمي، انتقل ابن باديس إلى المرحلة الثانية: الإعلام. أدرك أهمية الصحافة في نشر الوعي وتوحيد الصفوف.
صحف النضال: "النجاح"، "المنتقد"، و"الشهاب"
ساهم في تأسيس صحيفة "النجاح" عام 1919، وكتب فيها بأسماء مستعارة. ثم أسس صحيفته الخاصة "المنتقد" عام 1925، والتي أعقبها بصحيفة "الشهاب" التي استمرت حتى عام 1939.
"تستطيع الظروف تكييفنا، ولا تستطيع إتلافنا"
هذا الشعار الذي رفعه ابن باديس في صحيفة "الشهاب" يعكس إيمانه الراسخ بقدرة الجزائريين على التكيف مع الظروف الصعبة، دون التخلي عن مبادئهم.
قمع الاستعمار ومحاولات إسكات الصوت الوطني
لم يكن طريق الإعلام مفروشًا بالورود. تعرضت العديد من الصحف الوطنية للقمع والتعطيل من قبل السلطات الاستعمارية، في محاولة لإخماد صوت الحق.
جمعية العلماء المسلمين الجزائريين: تتويج مسيرة الإصلاح
كانت فكرة تأسيس جمعية العلماء المسلمين تراود ابن باديس منذ زمن بعيد، لكنه أدرك أن الوقت لم يكن مناسبًا حتى يتم بناء قاعدة صلبة من الوعي والتعليم.
18 عامًا من "دفن البذور"
بعد 18 عامًا من العمل الدؤوب، أثمرت الجهود بتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في 5 مايو 1931. كانت هذه الجمعية بمثابة تتويج لمسيرة الإصلاح، ونقطة انطلاق نحو مرحلة جديدة من النضال الوطني.
الوحدة والاتحاد: أساس النجاح
كان ابن باديس يدعو باستمرار إلى الوحدة والاتحاد بين العلماء والمصلحين، مؤكدًا أن ذلك هو السبيل الوحيد لتحقيق النجاح.
خاتمة: إرث ابن باديس وتأثيره
ترك الشيخ عبد الحميد بن باديس إرثًا عظيمًا للأجيال القادمة. لقد كان مفكرًا مستنيرًا، ومصلحًا جريئًا، وقائدًا فذًا. بفضل رؤيته الثاقبة وعمله الدؤوب، استطاع أن يوقظ الروح الوطنية في الجزائريين، وأن يمهد الطريق نحو الاستقلال والحرية. كان يرى ما لا يراه غيره، ويفكر فيما يخشى الآخرون التفكير فيه. لقد كان حقًا صاحب الخطوة الأولى نحو نهضة الجزائر.
اترك تعليقاً