مقدمة: تآكل أسس الأمن القومي الإسرائيلي
في أعقاب هجوم السابع من أكتوبر 2023، تشهد المؤسسات الصهيونية نقاشات داخلية عميقة حول حالة الوهن التي تعصف بالمجتمع الإسرائيلي. هذا الوهن، الذي تجلى بوضوح في الهجوم، أثار تساؤلات جدية حول قدرة الردع العسكرية وتماسك المجتمع. يُظهر التحليل أن ثلاث طبقات أساسية للدولة القومية اليهودية – عقيدة الأمن القومي، والاستراتيجية الأمنية، والاستراتيجية العسكرية – قد أظهرت عجزًا واضحًا في مواجهة الأزمة.
معهد دراسات الأمن القومي: فشل في التنفيذ لا في العقيدة
يعزو معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي الفشل في التعامل مع تداعيات "طوفان الأقصى" إلى عدم القدرة العملية على حماية وتنفيذ هذه الطبقات الثلاث من قبل المستوى السياسي والقيادة العسكرية. التقييمات السياسية والعسكرية تشير إلى انحراف القيادة السياسية عن تطبيق المبادئ الأساسية لعقيدة الأمن، خاصةً مبدأ الردع، وعدم المحافظة على تطبيق الاستراتيجية العسكرية للجيش، والفشل في تعزيز فكرة الأمن القومي القائمة على "يهودية" الدولة.
غياب الوثيقة الرسمية وتأثير اليمين المتطرف
يؤكد المعهد أيضًا أن مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي ليس مُصاغًا رسميًّا في وثيقة مكتوبة معتمدة، بل هو عبارة عن مبادئ توجيهية ضمنية تطورت منذ خمسينيات القرن الماضي نتيجة الصدام مع المحيط الإقليمي والصراع الديني على الهوية. هذا الصراع أصبح يؤثر حاليًا في صناعة القرار، مع سيطرة اليمين الصهيوني المتطرف على مؤسسات بارزة مثل أجهزة الشرطة ومحاولات الاستيلاء على "الشاباك".
مبادئ عقيدة الأمن القومي الإسرائيلي
وفقًا لصانع القرار الصهيوني، تتضمن عقيدة الأمن عدة مبادئ أساسية:
- الرؤية الوطنية للدولة: بناء وطن قومي للشعب اليهودي.
- تحديد الظروف الأمنية الأساسية: معالجة العداء الإقليمي.
- منهج الأمن القومي: هندسة المؤسسة الأمنية والمخرجات الاستراتيجية المطلوبة التي سيعتمد عليها النشاط السياسي للدولة لإظهار قوتها وقدرتها على الصمود في محيط يرفض قبولها.
يعتمد هذا المنهج على فرض "الجدار الحديدي" بالقوة الرادعة بدلًا من تحقيق نصر حاسم.
العناصر الحيوية للأمن القومي
يعتمد مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي على عناصر حيوية:
- تأمين الحدود الأمنية: من خلال قوة الردع والهجوم.
- تفعيل الشراكات الأمنية مع الجيران.
- طبيعة العلاقة مع الأقليات: مثل العرب داخل الدولة.
- يهود الشتات: الذين يشكلون قوة تأثير كبيرة لحماية الدولة.
ركائز العقيدة الأمنية: الردع، الإنذار المبكر، والنصر الحاسم
تستند العقيدة الأمنية الإسرائيلية إلى ثلاث ركائز حددها "ديفيد بن غوريون": الردع، والإنذار المبكر، والنصر الحاسم. يعتمد ذلك على سلاح الجو والصواريخ الباليستية، والتفوق الدفاعي، والدعم الغربي.
الفشل في اختبار السابع من أكتوبر: تحديات الواقع المتغير
يُنظر إلى فشل السابع من أكتوبر على أنه أصعب اختبار فشل في تجاوزه صانع القرار السياسي الإسرائيلي. أحد أهم الأسباب هو أن المشكلات الأمنية أصبحت تختلف كليًا عن العقود السابقة. أبرز هذه التحديات أن المقاومة الفلسطينية تقاتل على أرضها وبين شعبها، وليس كما حدث في لبنان عام 1982.
فقدان التفكير الاستراتيجي الشامل والانقسام الداخلي
يرى البعض أن القدرة على التفكير الاستراتيجي الشامل قد انتهت منذ خسارة إسرائيل للجيل المؤسس. حلت محلها "لوبيات" الضغط من اليمين واليسار، وأصبح الجيش والمؤسسة الأمنية في حالة ارتباك بسبب عدم القدرة على التعاطي مع الطبقة السياسية. هذا الوضع دفع جنرالات سابقين إلى التحذير من حرب أهلية محتملة، وهو ما أشار إليه معارضون سياسيون أيضًا.
مشروع قانون استراتيجية الأمن القومي: محاولة للحل
يحاول أعضاء الكنيست "غادي آيزنكوت" و "يولي إدلشتاين" حل هذه المعضلة من خلال سن مشروع قانون استراتيجية الأمن القومي لتجاوز فشل السابع من أكتوبر. يهدف هذا المشروع إلى ربط أداء الحكومة بالتقييم الاستراتيجي السنوي الذي يقدمه مجلس الأمن القومي للجنة الأمن القومي في الكنيست.
"جدار أريحا": حلقة النار المحيطة بإسرائيل
يمكن قراءة الوضع الراهن في سياق عملية "جدار أريحا" أو "حلقة النار" التي تحيط بإسرائيل، والتي تشمل:
- المتغيرات على حدود سوريا.
- استمرار الحرب في غزة وفشل الجيش في حسم المعركة.
- تجديد حماس لقدرتها القتالية.
- التفسيرات الخاطئة لقدرة حزب الله.
- فشل إسرائيل في حسم ملف الصواريخ القادمة من اليمن.
- استمرار التوتر في الضفة الغربية وإضعاف السلطة الفلسطينية.
- الطوق الشعبي العالمي المفروض على الوجود اليهودي.
الخلاصة: فشل سياسي وانقسام أيديولوجي
كل هذه العوامل تشير إلى فشل سياسي إسرائيلي على صعيد التطبيق وعدم القدرة على بناء استراتيجية للأمن القومي في ظل تعاظم الفجوة بين اليمين واليسار، وتحول هذا الأمر إلى فكر أيديولوجي يضع لبنة انقسام اجتماعي بين فكر الدولة الدينية والدولة الديمقراطية.
اختبار التطبيع وحدود التحالفات
اختبرت الحرب الجارية في غزة مفهوم الأمن القومي الصهيوني القائم على التعاون مع الجيران والتطبيع كقدرة فوق استخباراتية، وأظهرت حدود ما يمكن أن تحصل عليه إسرائيل من حلفائها.
تحديات داخلية مستمرة وفقدان الردع
لا يمكن معالجة الانقسام الحاصل في الداخل الإسرائيلي دون إصلاح سياسي يغيّب اليمين الصهيوني المتطرف، وهو أمر غير وارد في ظل تغول اليمين في المؤسسة الأمنية والجيش. كذلك، فإن قدرة الجيش على الردع ظهرت خلال عامين من القتال في غزة لم يتم فيها حسم المعركة، فالقدرة القتالية للمقاومة أصبحت أكبر كفاءة أمام خسارة العدو القدرة على الردع. أخيرًا، تواجه الدبلوماسية الصهيونية أزمة كبيرة بعد خسارتها الكثير في المحافل الرسمية والشعبية عالميًا.
اترك تعليقاً