الحج اتباع: دليل شامل لأهمية الاقتداء في مناسك الحج
الاتباع في اللغة يعني الموافقة والمسايرة، وهو السير على نهج شخص أو الاقتداء به. وفي الاصطلاح الشرعي، يتجاوز الاتباع معناه اللغوي ليصبح مصطلحًا دقيقًا يشير إلى اتباع الشريعة الإسلامية في الكتاب والسنة، واجتناب الابتداع. وكما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم".
وتتجلى قيمة الاتباع الحقيقية عندما يتعارض الأمر أو النهي مع العادات والأعراف أو ما تهواه النفس. ففي هذه اللحظات، تكون الاستجابة الحقيقية هي الامتثال لأمر الله ورسوله.
الحج: قمة التجلي للاتباع
يعتبر الحج، الركن الخامس من أركان الإسلام، مثالًا حيًا وواضحًا للاتباع في أسمى صوره. فمنذ لحظة الإحرام وحتى نهاية المناسك، يتجلى الاتباع في كل أمر ونهي.
التجرد من المألوف: بداية الاتباع
- الإحرام: بداية رحلة الحج تتطلب من الحاج التجرد من ملابسه المعتادة وارتداء ملابس الإحرام (الإزار والرداء للرجال). هذا التغيير الظاهري يعكس استعداد الحاج للتخلي عن المألوف والامتثال لأمر الله.
- المحظورات: يمتنع الحاج عن أمور مباحة في غير الإحرام، كالطيب وقص الأظافر والشعر، وحتى العلاقة الزوجية. هذا الامتناع هو تجسيد للاتباع الخالص، حيث يمتنع المسلم عن أشياء مباحة له في الأصل اتباعًا لأمر الله.
المراقبة الذاتية: جوهر العبادة
يلتزم الحاج بهذه المحظورات بمراقبة ذاتية، خوفًا من مخالفة شرع الله، لا خوفًا من رقابة خارجية. وهذا يعكس جوهر العبادة الحقيقية، وهي الامتثال لأمر الله عن طواعية ورغبة صادقة.
التسليم لأمر الشارع: قصة الحجر الأسود
المسلمون يلتزمون بما شرعه الله لهم حتى لو لم تظهر لهم الحكمة الظاهرة. قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع الحجر الأسود خير دليل على ذلك: "أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم استلمك ما استلمتك".
- دلالة القصة: هذه القصة تعبر عن التسليم الكامل لأمر الشارع وحسن الاتباع حتى في الأمور التي قد لا تدرك العقول حكمتها الظاهرة.
أمثلة حية للاتباع في مناسك الحج
الرمل في الطواف: إحياء لسنة نبوية
في عمرة القضية، أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالرمل (المشي السريع) في الأشواط الثلاثة الأولى من الطواف لإظهار قوتهم للمشركين. ورغم زوال السبب (عدم وجود المشركين)، استمر المسلمون في الرمل اتباعًا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
- قول عمر رضي الله عنه: "فما لنا وللرمل إنما كنا راءينا به المشركين وقد أهلكهم الله… شيء صنعه النبي صلى الله عليه وسلم فلا نحب أن نتركه."
استلام الركنين: الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم
اقتصر النبي صلى الله عليه وسلم في طوافه على استلام الحجر الأسود والركن اليماني فقط. وعلى الرغم من أن الأركان الأربعة جميعها جزء من الكعبة، إلا أن المسلمين يتبعون النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ولا يستلمون الركنين الآخرين.
- إنكار ابن عباس على معاوية: عندما استلم معاوية رضي الله عنه الأركان كلها، أنكر عليه ابن عباس رضي الله عنهما مستدلًا بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.
"ابدأ بما بدأ الله به": منهج نبوي في الاتباع
عندما صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا في بداية السعي، قرأ قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ثم قال: "أبدأ بما بدأ الله به".
- تأكيد على الأولوية: هذه العبارة تؤكد على أهمية البدء بما بدأ به الله ورسوله، والالتزام بالترتيب الذي شرعه الله في العبادات.
"خذوا عني مناسككم": دعوة نبوية للاقتداء
كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على متابعته واتباعه في مناسك الحج، قائلاً: "خذوا عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا".
- الحرص على التعليم: هذه الدعوة النبوية تعكس حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعليم أمته مناسك الحج الصحيحة، وضمان أدائها على الوجه الأمثل.
مخالفة المشركين: تمييز الهوية الإسلامية
خالف النبي صلى الله عليه وسلم المشركين في طريقتهم في الوقوف بعرفة والدفع منها والخروج من مزدلفة، وأكد على ذلك بقوله: "هدينا مخالف لهدي أهل الأوثان والشرك".
- الحفاظ على التميز: هذا التوجيه النبوي يهدف إلى الحفاظ على هوية المسلمين المتميزة، وتمييزهم عن أهل الشرك في عباداتهم وشعائرهم.
الخلاصة
الحج رحلة روحانية تجسد معاني الاتباع والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وإبراهيم عليه السلام. ففي كل خطوة من خطوات الحج، نجد دعوة صريحة للتمسك بالسنة النبوية والابتعاد عن الابتداع والتحريف. فالحج ليس مجرد أداء مناسك، بل هو تربية للنفس على الامتثال لأمر الله ورسوله، والتسليم لشرعه، والاقتداء بهديه.
اترك تعليقاً