في رحاب الصفات الإلهية، تتجلى رحمتُه وعظمتُه في صفتين جليلتين: الحياء والستر. هاتان الصفتان، اللتان يُوصَف بهما الله عز وجل على ما يليق بجلاله وكماله، تعكسان كرمه وحلمه بعباده. ولا يجوز لنا عند إثبات هذه الصفات أن نقع في التشبيه أو التمثيل، فاستحياؤه وستره سبحانه ليس كاستحياء وستر المخلوقين، بل هما صفتان تنبعان من عظمته المطلقة.
الإيمان بصفات الله: منهج أهل السنة والجماعة
إن القول في صفة الحياء والستر لله عز وجل، كالقول في سائر الصفات التي أثبتها الله لنفسه في كتابه الكريم، أو أثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الصحيحة. يجب علينا إثباتها من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، مستندين إلى أن الله أعلم بنفسه، ورسوله صلى الله عليه وسلم أعلم بربه.
قاعدة أهل السنة: الإثبات والتنزيه
المعتقد الصحيح في صفات الله عز وجل هو الإثبات مع نفي مماثلة المخلوقات، جريًا على قاعدة أهل السنة في الإثبات والتنزيه. يقول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11].
- الإثبات: إثبات ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات.
- التنزيه: تنزيه الله عن مشابهة خلقه في ذاته وصفاته وأفعاله.
أقوال العلماء في صفات الله
- القرطبي: "والذي يُعْتقد في هذا الباب أن الله جلَّ اسمه في عظمته وكبريائه وملكوته وحُسْنى أسمائه وعَليِّ صفاته، لا يشبه شيئا مِنْ مخلوقاته ولا يُشبه به {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}."
- السعدي: "{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أي: ليس يشبهه تعالى ولا يماثله شيء من مخلوقاته، لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، لأنَّ أسماءه كلها حسنى، وصفاته صفات كمال وعظمة.."
- ابن عبد البر: "أهل السنة مُجْمِعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها."
- ابن تيمية: "ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله عز وجل بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، مِنْ غير تحريفٍ ولا تعطيل، ومِنْ غَيْر تَكْيِيِّفٍ ولا تمثيل. يثبتون له الأسماء والصفات."
- ابن عثيمين: "السَّلَف الصَّالح مِن صَدْرِ هذه الأُمَّة، وهم الصَّحابة الذين هم خير القُرونِ، والتَّابعون لهم بإحسانٍ، وأئمَّةُ الهُدى مِن بَعْدِهم: كانوا مجمِعينَ على إثباتِ ما أثبَتَه اللهُ لنَفْسِه، أو أثبَتَه له رَسولُه صلى الله عليه وسلم مِنَ الأسماءِ والصِّفات، وإجراءِ النُّصوص على ظاهِرِها اللَّائِق بالله تعالى، من غير تحريفٍ، ولا تعطيلٍ، ولا تكييفٍ، ولا تمثيلٍ…"
الحياء والستر في السنة النبوية
لقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم في حديثٍ واحدٍ صفة الحياء والستر لله عز وجل:
عن يعلى بن أمية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ اللهَ تعالى حييٌّ سِتِّير، يُحبُّ الحياءَ والسَّتر». (رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه الألباني وغيرهما).
معاني "ستير"
- ستير (بكسر السين وتشديد التاء): أي كثير الستر.
- ستير (بفتح السين وتخفيف التاء): أي من شأنه وإرادته حب الستر والصون.
الحياء: صفة كمال وجلال
الحياء والاستحياء من صفات الله الثابتة بالأدلة من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة.
قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26].
وعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس معه، إذ أقبل نفر ثلاثة…فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى الله، فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا، فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض، فأعرض الله عنه»). (رواه البخاري)
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "في هذا الحديث إثبات الحياء لله عزَّ وجلَّ ولكنه ليس كحياء المخلوقين، بل هو حياء الكمال يليق بالله عزَّ وجلَّ… فكلما مر عليك صفة من صفات الله مشابهة لصفات المخلوقين في اللفظ فاعلم أنهما لا يستويان في المعنى لأن الله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}."
وعن سلمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن ربكم حييٌّ كريم، يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه فيردَّهما صِفْرًا». (رواه ابن ماجه والترمذي)
الستر: من عظيم رحمة الله وفضله
الله عز وجل يحب الستر، ويأمر بستر العورات، وهذا من كمال وعظيم رحمته وفضله. إنه سبحانه وتعالى يستر عباده فلا يفضحهم بما ارتكبوا من معاصٍ وسيئات.
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:20].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "النعمة الظاهرة: الإسلام والقرآن، والباطنة: ما ستر عليك من الذنوب ولم يعجل عليك بالنقمة."
الستر في الدنيا والآخرة
إن ستر الله على عباده لا يقتصر على الدنيا فقط، بل يشمل الدنيا والآخرة.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ اللَّهَ يُدْنِى الْمُؤْمِنَ فَيَضَع عَلَيْهِ كَنَفَه وَيَسْتُره، فيقول: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذا، أَتَعْرِف ذَنْبَ كَذا؟ فيقول: نَعَمْ أي رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِه ورأَى في نفسه أنه هَلَك قال: سَتَرْتُهَا عَلَيْك في الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُها لَكَ اليَوم، فَيُعْطَى كِتَابَ حسناته»). (رواه البخاري)
محبة الله لأهل الحياء والستر
الله عز وجل الذي من صفاته الحياء والستر يحب أهل الحياء والستر من عباده. فمن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، ويكره من عبده إذا فعل معصية أن يذيعها، بل يتوب إليه فيما بينه وبينه ولا يظهرها للناس.
في الختام: لنتأمل في هاتين الصفتين العظيمتين، الحياء والستر، ونسعى للتحلي بهما اقتداءً بخالقنا عز وجل، ونسأله سبحانه أن يشملنا بستره في الدنيا والآخرة.
اترك تعليقاً