#
في لحظات التأمل العميق، حين تستشعر عظمة السماء وسكونها، يتردد صدى الوصية الإلهية: "كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ". هذه الآية تذكرنا بأن أعظم هدية أنزلت على الأرض ليست ثروة أو حضارة، بل هي الوحي الإلهي، النور الذي يضيء دروبنا ويقيم العدل في الأرض وينعش الأرواح، ويهدينا سبيلاً وسط متاهات الحياة.
مفارقة العصر: برامج قرآنية غزيرة وقلوب عطشى
في عصرنا هذا، الذي تضاءلت فيه المسافات وتكاثرت فيه المشاريع، نعيش مفارقة عجيبة. نرى رايات البرامج القرآنية ترفرف عالياً، بينما حرارة القرآن نفسه تغيب عن القلوب. مؤتمرات "تمكين القيم"، ومبادرات تحمل اسم "القرآن"، وبرامج للتربية على هدي الوحي تنتشر في كل مكان. ومع ذلك، يبقى السؤال: ما سر هذا الجفاف الباطني؟ لماذا تمضي القلوب في الإنجاز دون أن تروى؟
القرآن ليس مشروعًا مضافًا، بل هو المنبع
القرآن لم يكن يومًا مشروعًا يُضاف إلى غيره، ولا برنامجًا يُدمج ضمن غيره. بل هو المنبع والبوصلة والمصب. أي مشروع لا يجعل من القرآن مقصده، لا مجرد عنوانه، ينذر بانفصال خطير بين الشعار والجوهر، بين الهيكل والمضمون، بين ما يُقال وما يُعاش.
ابتلاء أهل العلم: الاغتراب تحت لافتة الخدمة
إن من أخص ابتلاءات طلاب العلم وأهل التأثير اليوم هو أن يغترب القرآن عن قلوبهم تحت لافتة الانشغال بخدمته. يغيب صوت الآية التي كانت تهزهم، وتتبدد تلك اللحظة التي كانت السورة تقلبهم من حال إلى حال، ويستبدل كل ذلك بـ "عناوين عرض"، و"محتوى تقديمي"، و"شريحة افتتاحية جذابة". كيف نزرع في الناس عظمة الوحي، ونحن أنفسنا فقدنا الدهشة الأولى؟
الاغتراب التدريجي: من الورد إلى العادة
الاغتراب عن القرآن لا يبدأ بهجره، بل يبدأ حين يصبح وردًا بلا حضور، وتلاوة بلا خشية، وعلمًا بلا مهابة. يتحول القرآن إلى "رجع للاستشهاد" لا "نبضًا للتشكل". يصبح الورد القرآني يُقرأ وكأنه مهمة في دفتر الإنجاز، لا جلسة تزكية في معراج العارفين. المعضلة تكمن في تحوله إلى عادة ذهنية لا أثر لها في باطن النفس، أو إلى أداة خطابية تُستخدم في التأثير لا في التزكية. هنا، تنشأ فجوة مرعبة بين "أهل القرآن"، و"أثر القرآن".
تمكين الإيمان قبل تمكين الدين
الإشكال الحقيقي هو أن ننشغل بتمكين الدين في الأرض، وننسى تمكين الإيمان في القلب. هذا النمط من الاغتراب لا يدركه الإنسان فجأة، بل يتسلل على هيئة انشغالات مبررة، وشعارات مقبولة، حتى يجد نفسه فاتراً أمام المصحف، جافاً في دعائه، غريباً في صلاته، بارداً عند آيات الوعد، وساكناً عند آيات الوعيد.
القرآن: دستور المشروع الإيماني
القرآن، وهو دستور المشروع الإيماني الأول، لا يرضى أن يكون بندًا على هامش المهام، ولا مرجعًا مؤقتًا عند الحاجة، بل هو أصل كل تحول، ومنطلق كل بناء. فكيف يجوز لمؤمن أن يترقى في سلم الدعوة، وهو يتراجع في تأمل القرآن؟ كيف يستقيم حال من يهندس برامجه على قاعدة التأثير، وقد هدم في داخله أركان التلقي والخشوع والأنس بكلام الله؟
العودة إلى لحظة السجود الأولى
الانشغال بالمشروعات الكبرى لا يعفي من التبعة، بل يثقل الكاهل أكثر. فمن ارتقى منصة التأثير، وجب أن يكون أقرب الناس إلى المصحف، لا في التلاوة الجهرية فقط، بل في المناجاة، في الحياء، في الرهبة، في التبتل. وهذا لا يتحقق إلا حين يتخفف العبد من ضجيج الإنجاز، ويعود إلى لحظة السجود الأولى، حيث لم يكن له من الدنيا إلا مصحفه ودمعته. لذلك كان السلف أشد الناس خلوةً بالقرآن كلما ازدادوا تأثيراً في الناس؛ لأنهم يعلمون أن الصوت الذي لا يُروى من النبع سيفقد عذوبته ولو صدح في أكبر جمع.
ثبات القلب على باب الوحي
من لم يجعل له ورداً ثابتاً يحفظه في زحمة مشاريعه، فسيجد أن نفسه قد ذبلت، ومشاريعه قد تكلست، وخطابه – وإن كان بليغاً – فقد روح النور. في هذا الزمن، يُختبر صدق القلوب لا بجزالة الأثر، بل بثباتها على باب الوحي. من حافظ على لحظته مع المصحف، وسط الندوات والتخطيط والتأثير، فقد ثبّت قدمه في الصراط، ومن انشغل بكل شيء إلا القرآن، خيف عليه أن يكون ممن: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ}.
اترك تعليقاً