مقدمة: تشويه الحقائق أم تطور لغوي؟
في خضم الحوارات الإعلامية المتسارعة، يجد المرء نفسه أمام سيل من المصطلحات التي تُشكك في ثوابت راسخة، وتُثير تساؤلات حول صحة المفاهيم التي استقرّت في الذهن عبر الزمن. هل نحن أمام علم زائف، أم أننا نشهد حرفة جديدة، حرفة "تبييض" المفاهيم، تروج لها وسائل الإعلام الغربية؟ هذه الحرفة التي أصبحت مصدرًا للربح والشهرة الزائفة، يتسابق إليها أصحاب الأقلام ولوحات المفاتيح. ألم نكتفِ بتبييض الأموال الذي أفسد اقتصاداتنا، حتى انتقلنا إلى تبييض المفاهيم الذي يُفسد العقول ويُحبط النفوس؟
انتهاك حرمة الكلمات: عندما تصبح المفاهيم سلعة
لقد استبيحت حرمة الكلمات، وانتُهكت المفاهيم، وأضحت تُفصَّل حسب الحاجة. لم يعد "المنجد" مرجعًا موثوقًا لمن يسعى إلى التدقيق والتحقق من معانيها، فقد تداخلت المفاهيم، وأصبح الضد شبيهًا بالضد، والنظير بالنظير.
إنها حرفة جديدة تهدف إلى تسويق الكلمات المعدلة "جينيًا" لكي تدخل المجال التداولي وتتسق فيه، محدثة بذلك حالة من الفوضى المعرفية لم نشهد لها مثيلًا. أصبح الاحتلال تحريرًا، والتحرير إرهابًا، والإرهاب اختُزل في الإسلام.
ببغاوات المصطلحات: ترديد أعمى أم قناعة راسخة؟
تجري هذه المصطلحات على ألسنة المتحدثين وكأنهم يلقون قصيدة مبرمجة آليًا، دون أدنى شعور بالحرج. لماذا الحرج في هذا الزمن الذي انفتح فيه كل شيء على كل شيء؟ فلماذا لا تنفتح المفاهيم على بعضها؟! في الماضي، كانت المفاهيم نسبية، تستمد حقيقتها من الإيديولوجية التي تنسب إليها، فنقول مثلًا: الحرية من منظور ماركسي أو ليبرالي أو ديني. أما الآن، وبعد انهيار الأنساق الفكرية المنغلقة، فقد اتخذت طابعًا إطلاقيًا على الرغم من خصوصية نشأتها.
لا يتعلق الأمر هنا بالأسف على انهيار الأنساق الفكرية المنغلقة، ولا بالحنين إلى عصر الإيديولوجيات، حتى وإن كانت متعددة، فهي عقبة أمام النظر والتأمل، وتحجب الحقيقة. فماذا سيكون عليه الأمر إذا أصبحت أيديولوجية واحدة قاهرة ومهيمنة؟
المفكرون وتبييض المفاهيم: بحث عن اعتراف أم خيانة للذات؟
كنا نظن أن السياسي، بحكم تعامله مع فن الممكن، هو الأكثر عرضة للعبث بالكلمات والمفاهيم، لإضفاء المشروعية على أفعاله، ولإبقاء الصورة "معلقة" وقابلة للامتداد والتشكل حسب الحاجة. ولكن الأمر أضحى أخطر بتسارع العديد من المفكرين إلى استغلال المنابر المتاحة للتبشير بالمفاهيم "الجديدة"، ولمضغ فضلات الدعاية السياسية الغربية دون حياء، فيتوسعون في الحديث عن الأصولية الإسلامية والإرهاب الإسلامي، ويدينون من أدانتهم الإدارة الأمريكية، ويصفقون لمن تصفق لهم.
أصبحت أولوياتهم نسخة طبق الأصل من أولوياتها، ورفعوا شعارات محاربة الإرهاب – الذي اتخذ عندهم شكلًا واحدًا – ونسوا أو تناسوا الآلاف من الضحايا الذين يحصدهم يوميًا إرهاب الفقر وإرهاب الاستبداد. يتناوبون دفعة وراء دفعة أملًا في أن يصبح الكون كله ناطقًا بلسان واحد، ومفكرًا بطريقة واحدة، ومن شذ عن القطيع ألحق بمحور الشر.
التنوع قوة: التعارف لا الإلغاء
بعضهم يظن أن ذلك من شروط الاعتراف بنا، فلا وجود إلا للأجناس المتماثلة: هكذا تحدث الزعيم الأوحد! وينسى هؤلاء أن الاعتراف بالمعدوم محال؛ لأن الاعتراف بالآخر لا يكون ممكنًا إلا بالتعارف، والتعارف يقتضي الاعتراف به وليس القضاء عليه. وهكذا تكلم القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيْمٌ خَبِيْرٌ}.
ليس مطلوبًا من المفكر في هذه الحالة العامة من الإحباط أن يكون ملتزمًا بقضايا شعبه وأمته، فقد قيل إن ذلك زمان قد ولى، ولكن المطلوب منه أن يحترم ذاته، ويحترم علمه، ولا يبخسه فيتحول إلى مجرد "تاجر للمصطلحات المعدلة وراثيًا"، لا هم له إلا الترويج لها، فيدنس المقدس، ويقدس المدنس.
الشعوب والوعي: بين القمع والاستسلام
تعلم الشعوب بحسها المرهف طبيعيًا أنها كانت ولا زالت مكبلة في كثير من حالتها بأنظمة القمع والاستبداد، ولكنها تعلم أنها ستكون أكثر تكبيلًا في ظل احتلال الأسياد لأراضيها بعد غياب أو عطالة الوسطاء؛ ولذلك فهي ليست في حاجة إلى من يعلمها ويكشف لها سر حالها. وهي تعلم أن هؤلاء المدعين للعلم الذين يدعونها إلى الاستسلام كانوا يومًا ما عونًا للوسطاء المستبدين. ويتوهم البعض أن الإمعان في إذلال الشعوب سيجعلها أكثر طوعًا وأكثر قبولًا للاستسلام، ولكنهم جهلوا أن يقظة ضمير فئة صغيرة من الناس كافية لتعيد للأمة توازنها، وتحيي فيها جذوة البقاء التي ظنوها منطفئة.
دعوة إلى التمهل: لا للهرولة نحو الرضى
إن هرول كثيرون طلبًا للرضى مسرعين، فعلى أصحاب الفكر أن يتمهلوا قليلًا، أو يتثاقلوا في هرولتهم إذا كانوا عاجزين عن الصدع بالحق، فلن يمضي وقت طويل حتى يقتنع أصحاب القرار في الغرب أن هذه الأمة ترفض أن تفنى، وستظل عوامل البقاء كامنة فيها، وسيعترفون بخطأ خيارهم المبني على القوة في التعامل معها، وسيعلمون أن المنطق الوحيد الذي يجب أن يسود هو منطق المصالح المتبادلة.
إعادة تعريف المصطلحات: سلاح في وجه التلاعب
إنها دعوة للمفكرين الذين جرفهم التيار عن وعي أو عن غير وعي إلى التوقف لحظة والتفكير بعمق في هذه المصطلحات التي غزت لغتنا السياسية والثقافية، والإسهام في تحديد معناها تحديدًا دقيقًا يضع حدًا للتلاعب بها، ويعيد للكلمات دقتها. وسيستبين لهم أن المنطق الذي يحكم الصراع على مناطق النفوذ، والاستحواذ على مقدرات الشعوب، والتحكم في صياغة المفاهيم وبلورتها منطق واحد، وأنه لا فرق بين "القنابل العنقودية" وبين مقولات التشكيك في التضحية والاستشهاد، فكلها أسلحة دمار شامل، الأولى تصيب المنشآت المادية، وتستهدف الأنفس، والثانية تصيب الروح وتستهدف النيل من مقومات البقاء.
سترتعش يد المقاتل الفلسطيني عندما تصيبه رصاصة التشكيك في الهدف الذي يضحي من أجله، فلا تزيدوا الأمهات الثكالى اللائي أفرغت أفئدتهن جرحًا وألمًا بالتشكيك في نبل مقاصد أبنائهن الذين ضحوا بأرواحهم. سيقول البعض ممن يرفعون شعار العقل والتعقل إن العاطفة والمشاعر تهدم ولا تبني، وتجعل أصحابها يتصرفون بحماقة وسذاجة فتأتي على الأخضر واليابس؛ ولكن أليس عين العقل أن نستثمر عن وعي وبصيرة السلاح الذي لم ينجحوا في إسقاطه من أيدينا، سلاح الثقة في أننا أصحاب حق والحق غالب لا محالة؟ وماذا يجب علينا أن نفعل حيث لم يبق لنا من سلاح سوى سلاح المشاعر الصادقة بعد أن تم تأميم عقولنا؟ أليس من الحكمة أن نغذي هذه المشاعر النبيلة ونرشدها بدلًا من أن نحيطها بحالة من الغموض، تهوينًا من شأنها وتقليلًا من فعاليتها فنقضي بذلك على العقول والمشاعر معًا؟
اترك تعليقاً